واصل سماحة الشيخ ابراهيم الصفا سلسلة محاضراته الرمضانية بحسينية الحاج أحمد بن خميس ، و ذلك في ليلة السادس من شهر رمضان المبارك لعام 1444هـ ، وتحت عنوان " موائد القرآن " ، ابتدأ سماحته بالآيات المباركة من سورة طه " ه وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ (9) إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) " . من خصائص القرآن الكريم دون سواه من الكتب السماوية هي اتصافه بالشمولية ، والشمولية تعني أن القرآن الكريم في طيّات آياته قدّم أحكامًا و ضوابط وقوانين وتشاريع لمختلف تفاصيل الحياة ، إما أن يكون التشريع بنحو خاص أو أن يكون عبر قواعد عامّة يمكن للفقهاء ان يستنبطوا أحكامًا جزئية . الكثير من الأحكام في القرآن الكريم على نحو القضية الحقيقية لا على نحو القضية الخارجية ، فالقرآن متحرك مع كل زمان ومكان . القرآن يعتبر مائدة من العطاءات وسنقف اليوم مع هذه الآية المباركة التي صدّرنا بها المجلس ، هذه الآيات على قصر كلماتها تتضمّن أبحاثًا عميقة ، لكننا سنقف الليلة مع ثلاث أنواع من الأبحاث .
البحث الأول : هو البحث العقائدي و الكلامي ، حيث تعرّضت الآية المباركة الى مسائل متعلّقة بالذات الإلهية ، والمنادي هو الله و المُكلَّم هو موسى ، هل أن الله متكلّم كتكلّمنا ؟ المتكلّم عند الإنسان يحتاج الى أجزاء متعددة ، فصدور الصوت يحتاج الى الجهاز التنفسي و أحبالُا صوتية ، نقطع بانّ الله متكلّم ، وهنا صدر الإختلاف بين أهل العامّة الذين جوزوا التجسيم لذات الله كاليد و الرجل والنظر لله ، أمّا الإمامية لا تجوّز التجسيم فلا تقبل ما يقبله العامّة ، الله عندما أقبل موسى (ع) كلّمه من الشجرة ، وهذا الكلام ولّد بحثًا علميًا حول القيام صدوري أو حلولي ، النار لها صفات لا تنفك عنها كالحرارة و الإنارة ، أما ضوء القمر ليس ذاتيًا وهو ليس مضيء ذاتُا ، فالله عندما كلّم من الشجرة لا بنحو أن الله حلّ في الشجرة ، بل جعل الشجرة انعكاسًا لخلقه للصوت ، فإذا أراد الله شيئًا قال له كن فيكون ، علم الله ذاتي ، وعلم الإنسان عرضي قد يفقده ، وصفات الله عين ذاته . الله عزّ وجل اذا وُصف بالكلام فالكلام بالنسبة له خلقٌ من خلقه .
البحث الثاني : البحث الأخلاقي ، يجب على المؤمنين التحلّي بها ، الآية تقدّم درسًا في حسن الظن بالله ، الإمام الصادق (ع): " كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو فإن موسى (ع) ذهب ليقتبس لأهله نارا فانصرف إليهم وهو نبي مرسل " ، فلابدّ أن لا يبخل العبد ربه ، فهذا الشهر أعمالنا فيه مقبولة و الرحمة مفتحة و دعاؤنا مستجاب ، لا تزيده كثرة العطاء الا جودًا و كرمًا ، فسل ما تشاء فلا تطلب القليل بمحضر السخي الكريم . لتكن حسن الظن بالله وكن صاحب رجاء أن تكون لك الجنّة و أن تكون بجوار نبيه (ص) وأهل بيته (ع) . عنه (ص) " والذي لا إله إلا هو لا يعذب الله مؤمنا بعد التوبة والاستغفار إلا بسوء ظنه بالله وتقصير من رجائه وسوء خلقه واغتيابه للمؤمنين والذي لا إله إلا هو لا يحسن ظن عبد مؤمن بالله إلا كان الله عند ظن عبده المؤمن لان الله كريم بيده الخيرات يستحيي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظن ثم يخلف ظنه ورجاه، فأحسنوا بالله الظن وارغبوا إليه " ، لا تكن نظرتك سوداوية لله لأنه سبقت رحمته غضبه ، وعلى المؤمن أن يحسن الظن بربّه .
عنه (ص) : ورأيت رجلا من أمتي على الصراط يرتعد كما ترتعد السعفة في يوم ريح عاصف فجاءه حسن ظنه بالله فسكن رعدته ومضى على الصراط، ورأيت رجلا من أمتي على الصراط يزحف أحيانا ويحبو أحيانا ويتعلق أحيانا فجاءته صلاته علي فأقامته على قدميه ومضى على الصراط، ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة كلما انتهى إلى باب أغلق دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله صادقا بها ففتحت له الأبواب ودخل الجنة " ، و عن الله عز وجل في الحديث القدسي " أنا عند حسن ظن عبدي المؤمن بي إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا " . الله غني عن عذاب عباده و لكن لإرساء قواعد العدل في امتثال التكليف وعدمه .
البحث الثالث : الدرس الأسري ، جسّد نبي الله موسى صفة من أهم صفات الحياة الزوجية السعيدة و بها تستقيم الحياة ، عندما تتصف بالرفق ، عنه (ص) : " ما وضع الرفق على شئ إلا زانه ولا وضع الخرق على شئ إلا شانه، فمن أعطي الرفق أعطي خير الدنيا والآخرة ومن حرمه حرم خير الدنيا والآخرة " الرفق ضده القسوة و الشدّة و العنف ، حيث مرّ نبي الله موسى بعد مسير طويل وقد خرج من مدين باتجاه مصر برفقة زوجته الحامل (صفراء) التي أعيت بسبب السفر ، وذهب ليجلب لها نارًا لكي لا تتأذى من البرد ، وقد عُرف عن النبي موسى بالقوة الشديدة لكنه كان مع أسرته متدفقًا بالرفق واللّين . الرفق يزيّن الزوجين و الأولاد ، والرفق جمال للرجل و للمرأة . معيب أن يكون الإنسان قاسيًا في كلماته و سلوكه مع أهله . الرفق بالدلائل هو من رجاحة العقل ، عنه (ص) " أعقل الناس أشدهم مداراة للناس، وأذل الناس من أهان الناس " و المداراة من الرفق ، وعنه (ص) "فإنَّ اللهَ إذا أرادَ بأهلِ بَيتٍ خيرًا أدْخَلَ عليهم الرِّفْقِ "
التعليقات (0)