واصل سماحة الشيخ ابراهيم الصفا سلسلة محاضراته الرمضانية بحسينية الحاج أحمد بن خميس ، و ذلك في ليلة الرابع من شهر رمضان المبارك لعام 1444 هـ ، وتحت عنوان " البصيرة ، حقيقتها و آثارها " ، ابتدأ سماحته بالآيات المباركة من سورة يوسف " قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) " ، المتأمل في آيات القرآن الكريم يجد كمًّا من الآيات التي تحدّثت حول صفات المؤمنين، و من أبرز الصفات وأهمها ما جاء في سياق هذه الآية المباركة ، حيث من أهم ما يتميز به المؤمن أنه يعرف بأنه صاحب بصيرة ، الإتصاف بالبصيرة من لوازم المؤمن بالله ، لذا الحديث الليلة حول ما هي البصيرة ؟ و ما هي آثارها في سلوك الإنسان ؟ فقد تحدثت النصوص و الروايات الكثيرة حول البصيرة " ليس الأعمى من يعمى بصره، إنما الأعمى من تعمى بصيرته " ، كل انسان عنده بصر وعنده بصيرة ، من سورة الحج " أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) "
نقف مع بيان حقيقة البصيرة ، فقد تعددت الآراء حولها ، ونذكر منها أربعة آراء ولكنها خاطئة ، القول الأول أن البصيرة هي حالة وجدانية شمولية تلقائية فطرية تجعل من الإنسان يُقبل على شيء أو يحجب عنه - أي أنه شعورٌ داخلي - و المسؤول عنها وجدان الإنسان الدّاخلي ، وهو مؤشر تعرف من خلاله ما ينفعك وما يضرّك ، وهذا كلام غير صحيح . القول الثاني أنه العلم ، و العلم والبصيرة مترادفان ، فصاحب البصيرة هو صاحب العلم وهذا كلام غير صحيح أيضًا لأن العلم في منظومة أهل العلم هو انطباع صورة المعلوم لدى العالِم ، هناك مسموعات ومشمومات ومذوقات ومُبصرات ، فإذا نظرت لشيء انطبعت صورته في ذهنك وهذه ليست البصيرة .
القول الثالث يُراد بها الوعي ، نقول كل واعٍ عالِم ، ولكن ليس كلّ عالِم واع ، حشو الدماغ بمصطلحات علمية لا يمثّل حالة الوعي ، لأن الوعي حالة متقدّمة على العلم ، فالوعي هو محاكمة المعلومات لتتعرّف على السبب و المسببات و الآثار و والعلّل والمعلولات و النتائج و المقدمّات ، معرفة الروابط بين تلك تسمّى وعي ، وليس الوعي هو البصيرة . القول الرابع أن البصيرة هي حالة نفسانية يحققها الإنسان من خلال الرياضات الروحية فتتكشف له حقائق ويتملّك قوى خارقة وهذه ليست بصيرة ، فلو كانت بصيرة لتملّكها السحرة و المشعوذين .
اذن البصيرة التي أشار الله اليها وخاطب نبيّه : يا رسول الله قل للناس هذه سبيلي ، هذه البصيرة هي بصيرة الإيمان و التي منشؤها معرفة خالق الكون عز وجل وتطبيق ما نزل على قلب النبي (ًص) من أوامر وأحكام وحدود وضوابط ، وهنا تتوقّد بصيرة الإنسان ، من سورة الفتح " مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ " المراد من المعية ليست بالزمان و المكان ، وانما المعية المبدئية أي من كان مع سنة النبي وقيمه . البصيرة الحقيقية لا تستغني عن العلم ولا عن الوعي و لا عن الرياضية الروحية الإلهية ، والبصيرة هي علم ووعي و ترويض للنفس منشؤهُ الإتصال بالله عز وجل ، وهذه البصيرة مهمّة في حياة الإنسان ، وخُلقنا لمسيرة شائكة و متعبة ثقيلة ، نيل المراتب العالية يحتاج لكدح و تعب وعناء لوجود المعوّقات و الأعداء في طريق السير لله ، وهنا يحتاج الإنسان الى ما يعينه ، و لا يوجد أفضل من البصيرة .
آثار البصيرة في حياة الفرد و المجتمع ، أولها : أن يتملّك الإنسان البصير نظرة ثاقبة للأشياء و الإرادات و القضايا و الأحداث و يقرأ الأمور قراءة صحيحة ، والبصير لا يقع في الإلتباس ، عنه (ع) " العارف بزمانه لا تهجم عليه اللوائس " ، وليس الزمان كالدقائق و الساعات إنما الزمان هو الوعاء و أحداث الزمان . لا نجاة للمؤمن في زمان الفتن الا بالبصيرة ، وبالخصوص القضايا التي فيها اختطاف لعقول ابنائنا وبناتنا تحت عناوين برّاقة ومشاريع تنموية وصناعة قادة وزيارات للخارج ، و كلّها غسل للأدمغة من خلال عناوين برّاقة ، فيحتاج الإنسان في محاكمة الأحداث سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو فكرية الى البصيرة ، و الإسلام يؤكد على ضرورة التحلّي بالبصيرة .
الأثر الثاني هو معرفة الحقّ و الحقيقة ، و نحن في زمان اختلط الحق مع الباطل ، حتى على مستوى القضايا العقائدية ، فأصبح أعداء الله يخلطون الحق بالباطل ، عنه (ص) " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " ، هناك من يقود الفتن الفكرية بتضليل الناس ، و الفكر الإلحادي يروّج له بشكل برّاق ، و فكر الشذوذ و الإنحراف الأخلاقي ، كل ذلك يُروّج اعلاميًا من أجل إيجاد واقعُا مفروضًا لا تنجو منه الا بالوعي ، هذه الترسانة الإعلامية لها قدرة على غسل أدمغة الناس ، وتمثل سلخًا من الكثير من القيم و غرس السموم . في حرب الجمل و صفين نماذجًا لذلك ، عنه (ع) لما قال له الحارث: ما أرى طلحة وزبير وعائشة احتجوا إلا على حق -: قال عليه السلام " إن الحق والباطل لا يعرفان بالناس، ولكن اعرف الحق باتباع من اتبعه، والباطل باجتناب من اجتنبه ". الأثر الثالث : أن الإنسان يعالج الأسباب و لا يُعالج الآثار ، وهي من أكثر المشكلات التي يعاني منها الناس ، أصحاب البصائر يذهبون الى السبب .
التعليقات (0)