شارك هذا الموضوع

حسين الخميني .. الشريك المُعمم لرضا بهلوي

في نهاية شهر يوليو تموز الماضي استقر المقام في العراق بالسيد حسين مصطفى الخميني ( 46 عام ) حفيد آية الله العظمى روح الله الموسوي الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران، حيث حددت له القوات الأمريكية هناك أحد القصور الوثيرة لنائب رئيس مجلس قيادة الثورة المقبور عزّت إبراهيم الدوري المطلّة على نهر دجلة بمنطقة الجادرية ليكون مقراً له ولصديقه القادم من دولة الإمارات العربية المتحدة إياد جمال الدين الذي يرتبط به بوشائج فقهية وسياسية منذ دراستهما معاً في مدينة قم المقدسة، كما قامت بتوفير الحماية الشخصية له بمساعدة حلفائه السابقين في منظمة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة الذين وقف معهم في صراعهم المفتوح ضد حكم جده منذ العام 1981م وحتى يومنا هذا ووهبته رشاشاً وجهاز اتصال يعمل بالأقمار الصناعية وسهّلت له وصول العديد من وسائل الإعلام العربية والغربية ليحدثهم بحديثٍ شوفيني يستبطن من العداء والبغض ما يوازي (ويزيد) السياسة الأمريكية تجاه إيران وعموم الشرق الأوسط وخيالاً يتجاسر على ما لم يسبق التفكير فيه لأنه كان ( ولا يزال ) عُهراً  على معتنقيه .


لم تكن تصريحات حسين الخميني تلك سوى ضغط على العبارات والكلمات المحددة التي أشبه ما تكون بالقوالب الخطابية الدوغمائية الجاهزة يُراد لأوارها أن يُنفث من دون أية رتوش وكأنها مُعَدّة سلفاً ومنذ زمن سحيق :


(1) معارضته لمفهوم الدولة الدينية وبالتالي للنظام الإسلامي الحاكم في إيران وفقدانه لشرعية الاستمرار .


(2) عدم معارضته استقدام القوات الأمريكية ( ولو بيد عمرو ) لتحقيق غرض إنهاء الحكم الإسلامي في إيران لتخليص الشعب الإيراني من الدكتاتورية على غرار ما حصل في العراق تماماً !!!


 


الجذور والتكوين


دخل الحفيد بمعية أبيه السيد مصطفى إلى مدينة بورسا التركية ليلتحقوا بالإمام الخميني الذي دخلها منفياً من قِبَل الشاه في الرابع من تشرين الثاني 1964، وفي الخامس من تشرين الأول من عام 1965 م تمّ نقل الإمام الخميني وعائلته ولفيف من أتباعه ومريديه إلى العراق وكان عمر الحفيد آنذاك 7 أعوام، وفي الثالث والعشرين من أكتوبر 1977م قتل والده السيد مصطفى في مدينة النجف الأشرف على يد جهاز المخابرات الإيراني السابق السافاك بإيعاز من الشاه محمد رضا بهلوي، وعندما عاد إلى إيران بمعية جده بعد انتصار الثورة الإسلامية في 11 فبراير 1979م كان عمره ثلاثة وعشرين عاماً أو يزيد بقليل .. وكان عندها ملازماً لجوار جده وعمّه أحمد، إلاّ أنه ظل أميَل سيكولوجياً وعقائدياً وفكرياً إلى أخواله ذوو التوجه الليبرالي الذين هم أبناء آية الله الشيخ مرتضى الحائري نجل مؤسس الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري، وعندما احتدم الخلاف في مجلس خبراء القيادة الأول بين آية الله الدكتور محمد حسين بهشتي رئيس السلطة القضائية آنذاك ونائب رئيس مجلس خبراء القيادة ومنظّر الثورة ومعد دستورها وبين الرئيس أبو الحسن بني صدر رئيس الجمهورية يوم ذاك حول توزيع الأدوار الدستورية والصلاحيات بين السلطات انحاز حسين الخميني إلى جانب بني صدر وكان الإمام الخميني إلى ذلك الحين لا يزال لازماً الصمت تجاه ذلك الخلاف لكنه نَهَرَ حفيده ووبخه على موقفه وطلب منه التفرّغ لتحصيل العلوم الدينية في الحوزة العلمية، فغادر الحفيد طهران واستقر في مدينة قم المقدسة، ولما عَزَلَ البرلمان الإيراني الرئيس بني صدر في 21 حزيران ( يونيو ) 1981م  بغالبية مئة وسبعة وسبعين صوتاً ضد واحد وممتنع واحد بعد يومين من المناقشات وقف ضد القرار واعتبره غير شرعي، وعندما احتدمت معارك البقاء الشرسة بين قوات حرس الثورة الإسلامية ( الباسدران ) ومنظمة مجاهدي خلق في 9 – 15 أيلول سبتمبر 1981 كاد أن ينجر صوب العمل المسلح إلى جانب المنظمة وذلك بتحريض مباشر من قِبَلِ والدته التي كانت ( ولا تزال ) ضد النظام الإسلامي في إيران، ولم يلغي ارتباطه بهم إلاّ بعد أن أمر الإمام الخميني المقاتلين الثوريين المتشكلين تواً لتكوين وحدات الحرس الثوري بالتصدي له ولو بقوة السلاح إذا بدأها هو، ثم أمر باعتقاله برهة من الزمن ثم أطلق سراحه .


وكان وقوف الخميني الحفيد إلى جانبهم في ذلك الصراع ضد كيان الدولة وأجهزتها وهياكلها قد أسّس لشرخ غائر في العلاقة بين الحفيد وجده لم يندمل حتى وفاة الأخير في الرابع من يونيو ( حزيران ) 1989م جعلت من الحفيد لأن يستنكف حتى من المشاركة في تشييع وعزاء جده . 


وبعد أن شَرَدَ منتسبوا المنظمة وانهزموا في معركتهم الداخلية مع النظام الإسلامي وهروب زعامتهم ( مسعود رجوي وبني صدر ) في 28 يوليو (تموز) 1981م إلى فرنسا ثم إلى العراق العام 1986م آثر الخميني الحفيد السكوت وانتهاج سياسة الإضمار، إلاّ أنه ظلّ مناكفاً للنظام الإسلامي ووفياً لأفكار وتوجهات منظمة خلق التي وصفها مؤخراً أثناء زيارته للولايات المتحدة الأمريكية في إذاعة فردا الغد المعارضة بأنها منظمة تدعو إلى الحرية وأنه يؤيدها تماماً .


وفي أتون تلك الزوبعة التي أثارها الخميني (الصغير) على مشروع جده وعلى مفاهيم دينية من صميم أدبيات النظام الإسلامي الحاكم في طهران ظهرت الكثير من التحليلات السياسية من العديد من المراقبين كلها أجمعت على أن الحركة التي أطلقها حسين الخميني لا تمثل تهديداً جدياً  على نظام الجمهورية الإسلامية وذلك للأسباب التالية :


(1) فهو لا يمتلك إرثاً كارزمياً أو وجاهياً مما تركه جده يمكنه أن يستقوي به ولا تاريخاً مشرفاً منه إليه، فالخصومة التي كانت بين الجد وحفيده أحرقت الأخير إلى الحد الذي جعلته رماداً لا يُجمع وكسراً لا يُشعب الأمر الذي قضى على أي فرصة لإعادة الاعتبار له أمام الإيرانيين والتشكيلات الحزبية المتجذرة في أنسجة النظام السياسي الذي يرون في جده رمزاً أنسى من قبله وأتعب من بعده وخاض معهم وبهم أشرس معارك الأدلجة والتغيير نحو أطر سياسية وفكرية جديدة اختُزِلت في قوالب إسلامية خالصة مع مزيج متكافئ من التطعيم العصري لفقه الدولة الحديث والتي جاءت كبديل حقيقي لنظام طاغوتي عاشت في ظله البلاد تحت وصاية حكم متطرف في عسكريته وقمعيته وتبذيره للثروة الوطنية إلى أبعد الحدود .


وكان ذلك الإنقلاب السياسي والمفاهيمي للسلطة في إيران نتيجة طبيعية أخرى لحالة من الإندفاع الشاهنشاهي نحو أمركة البلاد، والاندفاع بلا تحكم في التماهي حتى النخاع بالنموذج الغربي سوسيولوجياً متخطياً بنيوية المجتمع الإيراني بكل ما يحويه من تمثلات دينية وعُرفية وسلوكية الأمر الذي خلق حالة لم تتحملها أنسجة الدولة بامتداداها المُتجذرة في روح الإنسان الفارسي المُتشبّع بتاريخ إمبراطوري وحضاري عريق يرى في الاستقلال الوطن والهوية الإيرانية والإسلامية ي متنفساً قومياً ودينياً لا يُضاهيه أي شيء .


إن العارفين بالشأن الإيراني يدركون تماماً أن الإمام الخميني لا يزال يحكم إيران من قبره في بهشتي زهراء وهو خط أحمر يلسع كل متجرأ يقترب منه الأمر الذي جعله ضرورة تاريخية ومرجعية سياسية مقدسة روحياً في الوجدان الشعبي الإيراني، وذاتاً رمزية لا تُمس تحمل من الكاريزما ما يكفيها لأن تحتفظ بشأنها بين الشرائح المجتمعية، خصوصاً وأن الرجل رحل في وقت لا يزال بريقه لامعاً ومصداقيته أقوى من أي شيء آخر حوله لما كان يلتزمه من سلوك شخصي يكتنف ملامح صوفية تقشفية ومواقف سياسية راديكالية تجاه أعداء إيران تفرض على ناظريه احتراماً وإكباراً، فالإيرانيون يتذكرون قدرته اللامتناهية في التعبير عن طبقاتهم الفقيرة والمُعدمة وكذا قدرته السياسية في إدارة صراعه مع نظام الشاه على مدى خمسة عشر عاماً، وكيف أنه وظّف شعارات الإصلاح السياسي التي كان يُنادي بها في إقناع الجماهير الغاضبة بضرورة التغيير الجذري وعدم القبول بأنصاف الحلول كمخرج للأزمة السياسية وتطبيق تجربة حكم الإسلام، وتوظيف الثقافة الشيعية الغنية بالرموز والدلالات في إلهاب مشاعر الجماهير وتجيشها ضد استبداد السلطة .


 


(2) ترتبط تصريحات حسين الخميني بوضع الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط والعالم بأسره، فواشنطن باتت حيزاً سياسياً مكروهاً في الكثير من مناطق العالم وصار عَلَمُها يُحرق في كل يوم، وأصبح التعامل أو التعاون معها في بعض الملفات الحسّاسة لعنة لا تُغتفر وتهمة جوّاله تقع على رأس كل من قصد ذلك وبادر في طلبه بسبب سياساتها المزدوجة والإنتقائية تجاه قضايا العالم، لذا فإن تصريحات حسين الخميني المتضمنة استنجاده بالولايات المتحدة لتخليص إيران من الاستبداد !! قد جعلت ريحه في مقتل خصوصاً في ظل تزايد الدعم اللامحدود الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، وفي ظل السياسات العدائية المستمرة والمستعرة من قِبَلِها ضد إيران، وانتهاج سياسة غطرسة القوة كما سمّاها السناتور الراحل وليم فولبرايت .


 وقد أجرى معهد غالوب بواشنطن استطلاعاً للرأي أظهر أن غالبية سكان الدول المسلمة ( باكستان وإيران وأندونوسيا وتركيا ولبنان والمغرب والكويت والأردن والسعودية ) لها آراء مناهضة للولايات المتحدة الأمريكية وتعتبرها متغطرسة تتسم بالعنف .


وفي سبيل تحسين تلك الصورة السيئة لها في العالم العربي والإسلامي وفي دول كثيرة أخرى تمّ افتتاح محطة CNB الأمريكية الممولة من قِبَل وزارة الخارجية بغية كسب تفهم الجماهير العربية والمسلمة في العالم للسياسات الأمريكية .


كما قامت وزارة الخارجية الأمريكية بعقد عدة مؤتمرات هدفت منها تبييض شرح دوافع السياسات الأمريكية كالذي يُعقَد الآن بمشاركة حوالي عشرين من الجامعيين الأمريكيين والأجانب والدبلوماسيين في محاولة لفهم جذور العداء للولايات المتحدة وبحث وسائل مكافحته .


وأمام كل ذلك يقدّم حسين الخميني نفسه جهاراً كطابورٍ خامس ( بالمجان ) ضد أمن بلاده وضد أمن منطقة الشرق الأوسط المهددة دائماً بمخاطر إقليمية ودولية، لذا فإن كثيراً من الخبراء قد قلّل من إمكانية أن يمثّل حسين الخميني خطرًا جدياً على النظام الإسلامي القائـم المتجذر والمُحاط بسياج عقيدي سميك، موضحين أنه " أحرق نفسه " عندما استعدى الولايات المتحدة على إيران
كما عبّر بذلك مصطفي اللباد رئيس تحرير مجلة شرق نامة المعنية بشئون إيران وتركيا وآسيا الوسطى، والخبير في الشئون الإيرانية، الذي قال إن " حسين الخميني لا يمثّل قيمة يعتد بها في إيران، وليس له أي مستقبل بالبلاد "  وأعرب اللباد عن اعتقاده بوجود مخطط أمريكي لاستخدام ورقة حفيد الإمام الخميني للضغط على الحكومة الإيرانية، مشيرًا إلى أن تصريحات حسين الخميني صدرت في الوقت الذي تتصاعد الأزمة النووية الإيرانية بين طهران من جهة وبين مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية والولايات المتحدة الأمريكية وكندا من جهة أخرى .
 
(3) يرتبط الوضع السياسي والاجتماعي لحسين الخميني مع وضع منظمة مجاهدي خلق المسلحة وأيدلوجيتها المركبة في الوجدان القومي والاجتماعي والسياسي الإيراني باعتباره ( أي حسين الخميني ) امتداداً طبيعياً لها، فالمنظمة المذكورة لا تمتلك رصيداً شعبياً يُذكر بين الإيرانيين بشتى أطيافهم، خصوصاً وأنهم تجاوزا الكثير من الاعتبارات القومية حين انزلقوا صوب دعم العراق في حربه ضد إيران وساندوه في قمع التحرك الشعبي الكبير في جنوب العراق بعيد انتهاء حرب الخليج الثانية في العام 1991م .


وعلى إثر ذلك الدعم الذي قامت به المنظمة للنظام البعثي في العراق قام الرئيس المخلوع صدام حسين بالتكفل بشؤون المنظمة العسكرية والإقتصادية واللوجستية فجهزهم بأحدث المعدات العسكرية، وأمّن لهم معسكرات قريبة من الحدود الإيرانية، ووفّر لهم غطاءً سياسياً يتحركون من خلاله ضد النظام الإسلامي في طهران، مما جعل الإيرانيين وغيرهم من شعوب المنطقة ينظرون إليها كجماعة إرهابية عميلة تتعاون مع عدو يريد احتلال وطن مستقر وهدم نظام ديمقراطي يتخذ من الإسلام روحاً ومنهجاً لإدارة الدولة وهو ما أعطى رسالة سلبية للداخل الإيراني من أن منظمة خلق ما هي إلاّ شبكة مشبوهة من العلاقات الاستخباراتية مع جهات معادية لا تهدف إلى الإصلاح السياسي أو بالعمليات الجراحية في القصور الرئاسية .


كما أن منظمة مجاهدي خلق لا تحظى بذاكرة نظيفة في الوجدان والعقل الإيراني الحديث فهي دخلت في صراع مفتوح مع الحكم الإسلامي الفتي لم ينتهي أواره واستهدفته بعمليات مسلحة شرسة ففجرت مقر الحزب الجمهوري وقتل فيه اثنان وسبعون شخصاً بينهم رجال مهمين جداً في الدولة كآية الله بهشتي ومحمد منتظري، كما قامت بعد شهر أو يزيد بتفجير مقر رئاسة الوزراء فقتلت رئيس الجمهورية محمد علي رجائي ورئيس وزرائه حجة الإسلام الدكتور محمد جواد باهنر، كما اغتالت العديد من الشخصيات الركنية في الدولة كأسد الله مدني وآية الله صدوقي وعلي صياد شيرازي عام 1999 م  رجل الحرب العراقية الإيرانية الحديدي ومستشار المرشد الأعلى للشؤون العسكرية . 


 


كما أن الأيدلوجية التي تبتني عليها منظمة مجاهدي خلق ليس لها مؤيدون أو متعاطفون بين الشرائح المجتمعية في إيران فالمباني الفكرية للمنظمة ما هي إلاّ عدة مشارب فلسفية وعقائدية متناقضة لا تنتهي إلى إفضاء غائي متوازن ومفهوم فهم أرادوا الانتماء إلى الإسلام بشكل مطلق إلاّ أنهم عملياً أعلنوا انتسابهم إلى الماركسية، وبالرغم من إسلاميتهم كانوا يعتقدون بأنهم بتخليهم عن الجانب الفلسفي من المادية الجدلية يستطيعون اتخاذ الماركسية أساساً للعمل الثوري، وفيما يخص الإسلام وبرغم التاريخ الفقهي الطويل رجعوا إلى الإيمان الأولي لينتهوا إلى أصولية شيعية مطعمّة بماركسية – لينينية ستالينية صرفة، وكانوا في نفس الوقت يعلنون انتمائهم الإسلامي مع المطالبة بدين مجرد من كل الأحكام القضائية والاجتهادات الفقهية مفتشين مع ذلك في هذا الإسلام الأصولي عن وسيلة للنضال السياسي في الوقت الذي كانوا يدعون أنهم ماركسيون فيما يخص النهج الذي يجب تطبيقه وفي ظل تعثر الآيدولوجيات والأفكار القومية والليبرالية والأزمة التي تواجهها على مستوى الفكر والتنظيم والممارسة في إيران وعدم وجود أرض خصبة لنمو تلك الأفكار نظراً لاعتبارات تتصل بالتكوين الثقافي و العقيدي عند الإيرانيين فإن وضع المنظمة بنيوياً يبقى غريباً وبعيداً عن أي اتصال جماهيري فاعل يستطيع أن يُكوّن خطاب يعكس في كنهه دلالات اجتماعية وسياسية مهمّة تشكل خطراً للنظام الإسلامي في إيران الذي دخل في تجربة حكم دينية ديمقراطية جديدة وراشدة بفعل انفتاحها على المفاهيم الحديثة والمساهمة بقوة في تطبيق نظريات تتصل بالحياة الاقتصادية للناس كالعدل التوزيعي في مواجهة التفاوت الإجتماعي وضرورة صيانة الاستقلال الوطني ورفض التبعية للغرب .


 


 


(4) يبقى النظام الإيراني نظاماً مستقراً من الناحية المشروعية، ويتمتع بعلاقات جيدة إلى حد ما مع جيرانه ومعترف به عالمياً ولديه مقاعد في المنظمات الدولية، كما أنه يحمل مشروعاً مدنياً رائداً في إدارة الدولة وقدّم في سبيل ذلك الكثير من الحلول لعدد من المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية واستطاع أن يخلق بنىً اجتماعية مدنية متماسكة تتسم بالحراك الدائم وفق آلية تماهت فيها الأيدلوجية مع الأطر الحديثة لذا فإننا نلحظ أن النظام الإسلامي في إيران انطلق من خلال رؤية تحليلية للنظام وأدواته ووسائله ولمراكز القوى المؤثرة في المجتمع، ومن خلال فهم علمي للواقع رافضاً الأفكار الهلامية المجردة التي تفصل بوعي وبدون وعي بين التصورات الذهنية والعمل السياسي الثوري، ولهذا كانت تمزج بين الفكر والممارسة من خلال منظومة جدلية واعية، كما أنه برهن على القدرة في الإلتقاء على مستوى مظلة الشرعية الإسلامية كما يمثلها الدستور الإيراني وتراث الثورة بين مختلف الأطراف المتنافسة مع الاختلاف في مستوى الخلفية الفكرية والقراءات التأويلية التي تستند لهذه الشرعية، إلاّ أنه ورغم مراعاته التطبيق الإسلامي وفق العقيدة الدينية لم يهمل عنصر المرونة في الأحكام الشرعية والتكيف مع تعرجات السياسة الزمانية والمكانية، بالإضافة إلى أنها رسخت بين القناعات العقائدية والتفريعات التفصيلية في الإسلام باعتباره الدين الخالد .


وفي المجال الحقوقي فقد استطاع أن يُرسّخ مفهوم الديمقراطية بكل استحقاقاتها من فصل للسلطات والاحتكام لصناديق الإقتراع بشكل لا لبس فيه، فالشعب له حضوره الفعلي بشكل دائم في صنع القرار لجميع حيثيات النظام السياسي الإجرائية سواء لمركزية المرشد أو مجلس الخبراء أو رئيس الجمهورية والبرلمان والمجالس البلدية وتطبيق اللامركزية الإدارية حيث جرت منذ انتصار الثورة وإلى الآن أكثر من 26 عملية انتخاب لعدة مراكز تشريعية وتنفيذية في الدولة، وإعطاء دور أوسع للمؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة والعمل على ترسيخ الانتقال الديمقراطي ضمن غطاء الشرعية الدستورية، رغم أيديولوجيا الدولة القائمة على الخلفية الدينية التي تعطي دوراً مركزياً للإمامة الدينية والسياسية .


وأمام كل ذلك الإنجاز المعرفي الجديد قام النظام الإيراني بتأصيل مفهوم السلطة الجمعية وإلغاء السلطة الأحادية الاحتكارية، فالصلاحيات التنفيذية موزعة على مختلف القوى في الدولة بشكل متوازن وفق الدستور لكي لا تكون هناك استبدادات جِهوية في صنع القرار مستعيناً في سبيل ذلك بنظرية المراقبة البينية على كافة القوى العاملة؛ فالمرشد مراقب من قِبَل مجلس خبراء القيادة ( 86 عضو ) في كيفية إدارته للسياسات الكلية كما أنه مراقب من قِبَل السلطة القضائية في أمواله وأموال عائلته وأصحابه، والبرلمان يحاسب الحكومة، والبرلمان نفسه مراقب من قبل مجلس صيانة الدستور وهذا الأخير عليه نفوذ من مجمع تشخيص مصلحة النظام، ومجمع التشخيص مراقب من قبل المرشد، كما قام النظام في إيران بانتهاج سياسة مهمّة جداً في مجال العمل السياسي وهو يتعلق بتزكية السياسين عند توليهم مناصب سياسية في الدولة فلا يمكن أن يكون رئيس الدولة رجل غير سوي، أو أنه يملك تاريخاً سياسياً وسلوكياً مشبوهاً، بل يجب أن تتوفر فيه الصفات الإنسانية بل حتى مفردات التدين ليكون بذلك صاحب وازع شخصي تجاه أي انحراف إداري أو مالي يحصل في الدولة، كما أن رساميل المال والتجارة لا تُسقِط أو تُنجِح المسؤولين السياسيين وفق مصالحاها التجارية كما يحصل في بعض البلدان .


وفي مجال الحقوق المدنية والحريات العامة فقد كُرّست حقوق المواطنة لكافة أفراد الشعب من حقوق عامة وتفصيلية  بدءاًً بحرية الصحافة (1150 صحيفة تصدر في إيران) وحرية تشكيل النقابات والاتحادات الطلابية والمهنية والنسائية والتكتلات السياسية  (110 أحزاب شاركت في الانتحابات البرلمانية السادسة) والمحافظة على حقوق الأقليات الموجودة من خلال عقد المواطنة، فقد ضمنت لهم الدولة حق المشاركة البرلمانية والسياسية ، وقد بيّن ذلك الدستور الإيراني بجلاء بالنسبة للأقليات الموجود في إيران، حيث ينتخب الزرادشت واليهود كل على حدة نائباً واحداً وينتخب المسيحيون الآشوريون والكلدانيون معاً نائباً واحداً وينتخب المسيحيون الأرمن في الجنوب والشمال كل على حدة نائباً واحداً .


وأمام كل تلك المعطيات تبقى ورقة حسين الخميني التي رُمِيَت في المربع الأمريكي ورقة صفراء لا يمكنها أن تلعب دوراً فعلياً على الساحة الإيرانية ولا وسيلة ضغط يمكن أن تستعملها واشنطن ضد طهران باعتبارها حركة غير منسجمة مع طبائع الأشياء القائمة في المنظومة الدولية والدستورية، كما أن التغيير عن طريق التطور الفكري والسياسي الداخلي أمر ممكن وقابل للتحقق، أما أن يقوم أحد بتحديد طبيعة النظام السياسي من خارج حدود إيران فهو أمر لا يمكن تحقيقه، خصوصاً إذا عرفنا بأن الإيرانيين يشعرون بحساسية شديدة وجدية وصارمة تجاه السيادة الوطنية بعد محاولات استمرت زهاء قرنين من الزمن .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع