" لو كان عندي عناد الفرس وحقد العرب وعلم اليونان لملكت الأرض "
الإسكندر المقدوني
يتميز نظام الجمهورية الإسلامية في إيران بشدة تعقيدهِ وبتركيبته الهرمية التي هي أقربُ ما تكون إلى فسيفساء تنتظم وفق منهاج سياسي تتماهى فيه أصول الدين وما يرشح عنها من أطر آيدولوجية مُلزِمَة ومقتضيات الواقع حتى لكأن المرء يقرأها حيناً كتلة أوتوقراطية صمّاء ومرة لائكية ميكيافيلية ومرة إمارة دينية تنتهج التأسلم الراديكالي حتى النخاع ومرة نظاماً ديمقراطيـاً ( إسلامياً ) راشداً يُفحِمُ ناقديه بفعله الحيوي وبسطوة حجته الفلسفية وهو واقعه الحقيقي .
في عام 1992 م أصدر القضاء الألماني لائحة إتهام بحق مسؤولين سياسيين وأمنيين كبار في النظام الإسلامي الحاكم في طهران متهماً إياهم بالتورط في حادثة مطعم ميكونوس ببرلين والذي قِتَل على إثرها معارضَيْن إيرانييْن ( كردييْن ) فقامت طهران ( وفي خطوة إحتجاجية ) بطرد السفير الألماني لديها، واشتد الأمر تعقيداً وسوءاً عندما ردَّت دول الاتحاد الأوروبي مجتمعةً بسحب سفرائها من طهران تضامناً مع ألمانيا، حتى تلبدت سماء العلاقات الإيرانية الأوربية بغيوم غير صيفية وثار في جوها غبار ورمال وحجارة ملأت الأجواء وحجبت الرؤية، وفي أتون تلك الأزمة خرج الشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني في صلاة جمعة طهران أمام حشدٍ من المصلين ( وكان عندها رئيساً للجمهورية ) وقال مخاطباً السفراء الأوربيين " سترجعون إلى طهران أدلاّء " !! وكان ذلك التصريح خطيراً في حينه ولا يبدوا لممتهني السياسة سوى ضربٍ من الخطب الدوغمائية التي يُراد منها شحن الهمم .. بل قرأه آخرون بأنه عناد تحكم في العقل وأنه غرور القوة الجماهيرية آخذ أصحابه إلى منتهاه .. إلاّ أن الأمر لم يكن كذلك فقد عاد السفراء الأوربيون بعد حين فعلاً إلى طهران من دون أن تتنازل الأخيرة عن موقفها بإدانة قرار القضاء الألماني والمطالبة بسحبه أو تجميده، ولم يُعلَم أن في الدهاليز الدبلوماسية أموراً أخرى فقد استسلمت الدول الأوروبية في نهاية المطاف خوفاً على مصالح اقتصادية ومالية وعقود تجارية بآلاف الملايين من الدولارات كانت قد تورطت بها مع الشركات الإيرانية البِكر والبازار الإيراني النافذ الذي يستحوذ على أكثر من 70 % من التجارة الداخلية وكذا على حوارٍ نقدي بدأ لتوه وجد فيه الأوربيون مدخلاً مهمّاً يمكن أن يُساعد في إعادة التوازن لأوربا في الشرق الأوسط وفي جنوب شرق آسيا بعد أن تبيَّن لهم بأن الشريك القابع وراء المحيط الأطلنطي شريك صعب يريد أن يحصل على كل شيء ولا يترك لشركائه بعده كثيراً أو قليلاً .
وبعد مرور عشر سنوات على تلك الأزمة وبالتحديد في فبراير من العام 2002 م نشبت أزمة دبلوماسية جديدة ولكن هذه المرة مع بريطانيا عندما أصرّت الأخيرة على تعيين الدبلوماسي ديفيد ريديويه سفيراً لها في إيران الأمر الذي رفضته طهران بشكل قاطع واصفة ريديويه بأنه صهيوني متطرف لا يمكن لأرض إيران أن تسعه، فردت بريطانيا بأنها لن تُعيِّن أحداً غير ما اختارت، وأصرَّ الإيرانيون على موقفهم رافضين أي مرونة فيه، ولم يُؤذن لتلك الأزمة أن تنتهي إلاّ بعد أن رجّحَ البريطانيون سياستهم البرجماتية ومصالحهم المتنامية في إيران ورضخوا للمطلب الإيراني .
وكانت تلك السياسة الإيرانية في التعامل مع بعض الملفات الحسّاسة سمة تكاد أن ترتسم على الكثير من القضايا التي واجهتها إيران على مدى ربع قرن منذ انتصـار الثورة الإسلامية فـي 11 فبراير 1979 م ولحد الآن .
أزمة الملف النووي
قبل أسابيع وضعت الأزمة النووية الحادة بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية أوزارها بعد خلاف حاد ساهمت الإدارة الأمريكية بغير قليل في إذكائه وتحشيد ما أمكن من الفرقاء ومن لفّ لفهم للضغط باتجاه التصعيد ومحاولة جرّ الملف إلى مجلس الأمن لاستصدار قرارات تتوافق وسياستها تجاه طهران، وكان ذلك إيذانٌ بإشعال فتيل أزمة أخرى بجوار العراق وأفغانستان من قِبَل واشنطن بعد سيل من الإخفاقات العسكرية والسياسية في هذين البلدين .
وفي خضمّ تلك المعركة الدبلوماسية لاحت في الأفق حكمة المفاوض الإيراني الذي بدا مقتنعاً بأن الأزمة المُحْتَدّة تحتاج إلى عملية تزييت تجعلها سلسة وأن المصلحة الوطنية هي أن تستجيب طهران لدواعي السياسة بأقل الخسائر وحصل ذلك فعلاً برشاقة قوام تستحق القراءة :
(1) أرادت إيران باستدعائها لوزراء خارجية كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا أن تسرق الموقف واللجام وتقتطف نصر المعركة من يد البيت الأبيض وتعزله بالكامل عن مقدمات ونتائج هذا الملف الشائك، الأمر الذي يُعطيها فرصة أكبر للمناورة والإلتفاف حول الطلبات الأمريكية وطلبات مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي هو واقع بلا أدنى مواربة تحت النفوذ الأمريكي .
كما أنها بموافقتها على التوقيع على البرتوكول الإضافي وفق شروطها الموضوعة سلفاً قد حصلت على تأييد وتعاطف عالمي كبير أشاح هالة من التقدير والمسؤولية على موقفها وخلق حالة من التشويش المتصاعد على أصوات اليمينيين في الإدارة الأمريكية بعد أن برهنت للعالم سعيها الدائم لبناء أواصر الثقة والحفاظ على السلم العالمي .
(2) بدأت إيران في استغلال الخلاف الأمريكي من جهة والأوربي الأممي من جهة أخرى في الكثير من الملفــات الحيوية كقضايا الشرق الأوسط وحزب الله لبنان وأفغانستان وفي تعريف الإرهاب ( ثمان دول أوربية تختلف مع الولايات المتحدة في تعريف الإرهاب ) خصوصاً أن الولايات المتحدة التي كانت تُعوّل كثيراً إلى ما قبل العام 2000 على سياسة مارتن إندك التي أطلق عليها سياسة الاحتواء المزدوج Dual Containment الفاشلة تجاه العراق وإيران لا زالت تطمح في خنق طهران باحتواءات سياسية واقتصادية مختلفة بغية عزلها وإضعافها من الداخل .
لذا فإن طهران استغلت ذلك التباين السياسي الأنغلوساكسوني فلجأت للإستقواء باستراتيجيات أوربا ( القديمة ) التي جرتها معها في وشائج سياسية وفكرية واقتصادية غائرة ( توجد أكثر من 400 شركة ألمانية بقطاعات مختلفة على أرض إيران، كما أن 12 % من واردات إيــــران الإلكترونية تأتيها من ألمانيا ) جعلت من فك الإرتباط بينهما خسارة مُوجعة للأوربيين الأمر الذي أعطى سياسة الحوار النقدي Critical Dialogue القائمة بينهما منذ مطلع التسعينات سمة الخيار الحتمي بعد أن تيقن الفرقاء أن الفكرة الأمريكية قديمة استهلكت نفسها ولم يبق انتظار نفع منها أو حنين .
وعليه فإن إيران وبموافقتها على التوقيع على البرتوكول الإضافي وفق تصورها السياسي والفني والبراجماتي تحت المظلة الأوروبية أعطى دفعة أخرى من المصداقية والجدوائية المنَشّطة لخيار الحوار النقدي وهو ما يُرجّح في نهاية الأمر كفة هذه السياسة على سياسات واشنطن الصِدامية الراديكالية .
(3) استطاعت إيران أن تحتفظ بمكتسباتها المُهمّة في مجال التكنولوجيا النووية السلمية وعلى مصالحها القومية وتملي شروطها الفنية والسياسية التي كانت متمسكة بها في السابق، فهي من جهة أخرجت محطة بوشهر النووية من أي مناقشات أو مفاوضات تُجرى مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومن جهة أخرى احتفظت لنفسها بإعادة البدء في تخصيب اليورانيوم عندما يُتَقرر إيقافـه من قِبَلِها في أي وقت تشاء كما ذكر ذلك صراحة الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الدكتور حسن روحاني بحضور وزراء خارجية الدول الأوربية الثلاث ( ألمانيا وبريطانيا وفرنسا ) بل زاد على ذلك المتحدث باسم الحكومة الإيرانية عبد الله رمضان زادة في مؤتمره الصحفي يوم الإثنين 28 أكتوبر الماضي بأنه " لم يتم بعد تحديد موعد تعليق تلك النشاطات وأن التوقيع على جميع المعاهدات له مراحل قانونية يجب اجتيازها " كما أن اجتماع مجمع تشخيص مصلحة النظام الإسلامي الطارئ الذي عُقِدَ في الثالث والعشرين من شهر أكتوبر الماضي لمواصلة مناقشاته ودراساته للخطوط العريضة للخطة التنموية الرابعة في الشؤون الثقافية والعلمية والتكنولوجية قد تمّ التأكيد فيه على أن إيران لا زالت تتمسك بمشروعها النووي الطموح وعلى ضرورة تنظيم وتعبئة إمكانيات وطاقات البلاد والبحوث والإنتاج وتشجيع التكنولوجيا والعلوم الجديدة في الإنتاج العلمي العالمي وتعزيز النهضة البرمجية ولا سيما التكنولوجيا الجديدة المتضمنة للتكنولوجيا البيئية والتكنولوجيا الدقيقة وتكنولوجيا المعلومات والاتصال والتكنولوجيا الجوية والفضائية والموارد الجديدة .
كما حصلت طهران ( وهو الأهم من كل ذلك ) على وعد مكتوب بتزويدها بالتكنولوجيا النووية من الغرب، وهو ما سيُشكل تحولاُ مهمّا في التقنية الإيرانية في المجال الذري حيث أن طهران لا تزال تعتمد بصورة رئيسية في ذلك على التقنية الروسية الأقل جودة عن ما هو موجود في الدول الغربية بسبب قّلة الميزانيات المُخصصة للإبحاث والمختبرات النووية في روسيا التي تُعاني أصلاً من مشاكل اقتصادية مُهلِكَة وأخرى تتزود بها من السوق السوداء بأثمان باهضة ومُكلِفة، كما حصلت طهران على اعتراف دولي أممي وبالخصوص من أوربا القديمة ( كما سمّاها دونالد رامسفيلد ) بحقها في اقتناء التكنولوجيا النووية السلمية .
(4) أن إيران التي تعتبر مشروعها النووي السلمي خياراً استراتيجياً من الدرجة الأولى قد أوكلت مهمّة التفاوض بشأن ملفها النووي لأشد رجالات الحكم راديكالية والمحسوب تنظيمياً على جمعية علماء الدين المناضلين ( روحانيت مبارز ) اليمينية المحافظة وهو حجة الإسلام والمسلمين الشيخ الدكتور حسن روحاني الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي، رغم وجود العديد من الشخصيات التفيذية ذات الصلة بالمجال النووي والإداري والدبلوماسي كالبروفسور غلام رضا آغا زادة رئيس الهيئة الوطنية الإيرانية للطاقة النووية ومستشار المرشد للشؤون العلمية، وهو ما يُعطي إشار ة مُهمّة أن إيران أرادت بذلك أن تتفاوض بالعصا الغليظة مع أندادها .
(5) حاولت إيران أن تُعطي ملفها النووي المُفَاوَض بشأنه الصفة الوطنية الشاملة حين أدخلت جميع الأطراف الإجرائية والتشريعية ومؤسسات المجتمع المدني من أحزاب وتجمعات طلابية ومجامع علمية واستذوقت رأيها حول معطيات ذلك الملف، وكان ذلك التحرك إجراء استراتيجياً احترازياً لأي مضاعفات كيفية قد تحدث مستقبلاً ويمكن أن تضر بالمصالح العليا للدولة الإيرانية .
كما أن الحكومة الإيرانية لجأت أيضاً لآراء فقهية حوزوية لمراجع دينية عليا أدلت برأيها في الموضوع، فكان رأي المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله السيد علي الخامنئي باعتباره مرجعاً فقهياً كبيراً واضحاً في ذلك وهو عدم جواز امتلاك أي سلاح فتّاك وأسلحة دمار شامل، وهو ما أعطى الموضوع صفة دينية ذات جنبات قدسية لا يمكن تخطيها ويمكن الوقوف حول نتائجها ومدى تأثيرها على محيط الدولة الديني .
وأمام ذلك الدهاء الدبلوماسي الإيراني في إدارة ملفها النووي تكون طهران قد حافظت على مصالحها الاستراتيجية، ولعبت لعبة الكبار في الكر والفر إلاّ أن الأنظار ستبقى شاخصة باتجاه اجتماع مجلس الحكام التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية في العشرين من نوفمبر الجاري للبت في القرارات المتمخضة عن بيان اللقاء الرباعي في طهران بين الأخيرة ووزراء خارجية كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا الذين غادروا إيران يوم الحادي والعشرين من أكتوبر الماضي خصوصاً وأن الكرة الآن باتت في مرمى الوكالة الدولية للطاقة الذرية .
التعليقات (0)