شارك هذا الموضوع

قراءات نقدية للعهد الخاتمي

مثّل فوز السيد محمد روح الله الخاتمي في انتخابات الجمعة في الثالث والعشرين من مايو آيار 1997 رجوعاً قوياً لما يُعرَف باليسار الديني الراديكالي إلى السلطة وبمعيته تيارٌ عريض من التشكيلات الحزبية ذات السّمة التكنوقراطية التي بدأت تتشكل وتظهر إبان حكم الرئيس هاشمي رفسنجاني ( 15 يوليو 1989 – 02 أغسطس 1997 ) .


 


وكان ذلك الرجوع لليساريين الدينيين وكتل من يمين الوسط  الصناعي ( أو مجموعة الـ 16 ) المُتشكل تواً من عشرة وزراء سابقين وأربعة من معاوني الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني والمعروف بإسم كوادر البناء Executives Of Construction قد أعاد رسم خريطة مراكز القوى السياسية ودور طبقة الإنتلجنسيا في مؤسسات الدولة الإجرائية والتقنينية ومؤسسات المجتمع المدني، كما أن اليسار الدينـي الراديكالـي الذي كان مُختَزَلاً في جمعية علماء الدين المناضلين ( روحانيون مبارز ) Militant Clerics Association وقبل رجوعه إلى مراكز صنع القرار قد أصابته عدوى الإنشطار الإنتمائي وغربلة عمودية في الولاءات الداخلية بين مريديه، وتمططت تشكيلاته التنظيمية فشرقت طائفة وغربت أخرى نحو مناهج فكرية وفقهية وسياسية جديدة مغايرة تماماً عن ما كانت تنادي به من شعارات طيلة عقد الثمانينيات إبّان حكومة السيد مير حسين الموسوي من تطبيق المركزية الإدارية والاقتصادية وتحديد قيمة العملة وانتهاج التصادم الدبلوماسي والسياسي في العلاقات الخارجية ( رغم احتفاظ بعض من رموزه الأصليين بذلك ) وهي ذات الشعارات التي جعلتها تخرج مترهلة كسيحة في الانتخابات التشريعية الرابعة عام 1992 بعد أن ملّ الناخب الإيراني منها في ظل تصاعد شعارات البناء والإعمار والتنمية الاقتصادية التي رفعها الشيخ رفسنجاني بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية 1988 ، كما أنها بدأت في تجسير تحالفاتها مع العديد من التيارات الفاعلة الأخرى .


 


وكان الفـوز الكاسح الذي حققـه الرئيس خاتمي في انتخابات الرئـاسـة السابعـة 1997 ( 83.49 % )  والثامنة 2001 ( 78.3 % ) نتيجة طبيعة للشعارات الدوغماجية، التي حملته كالبرق للفـوز على غرمائه، خصوصاً وأن خاتمي أدرك جيداً بأن المجتمع الإيراني ذو فُتوَّة عمريّة فاقعة تقارب الـ 70 % ، لذا فإن من يستطيع استمالة تلك الشريحة الواسعة سوف يتسيَّد على صناديق الاقتراع في جميع الولايات الثمان والعشرين .


 


كان السيد خاتمي وهو رجل أردكاني يزدي حوزوي، اجترار طبيعي لأبيه الذي كان فقيهاً وإماماً لجمعة يزد في ثمانينيات القرن الماضي إلاّ أن الإبن امتهن الثقافة حتى النخاع منذ أن أرسله الشهيد بهشتي إلى هامبورغ بألمانيا لإدارة المركز الإسلامي فيها قبل انتصار الثورة الإسلامية، ثم بعدها رئيساً لتحرير صحيفة كيهان العملاقة في بداية الثورة وتولى مسؤولية وزارة الثقافة الإرشاد الإسلامي منذ العام 1982 حتى 1992 .


 


وعندما تربّع خاتمي على كرسي الرئاسة في القصر الواقع في نهاية شارع فلسطين كانت ملفات إيران الجمهورية الإسلامية مهولة أمام يديه خصوصاً الملفات الاقتصادية التي نُفِض عنها الغبار فبدأت حِراكاً ديناميكياً نَشِطاً في خطتين خمسيتين إبّان الحقبة الرفسنجانية، كما وجد نفسه في معركة مباشرة صدراً بصدر مع تيارات ونخب سياسية وثقافية ولوبيات ضغط وطبقات اجتماعية جرّها صوب مماحكات استنزافية لم تربح منها إيران مكاسب تذكر بل ساهمت في إذكاء الاحتقان السياسي بين الفرقاء فانتعشت رايات الآخرين على أرض إيران .


 


وعليه فإننا يمكن أن نتوقف أمام خطوتين محوريتين ميّزتا العهد الخاتمي طيلة السنوات الست الماضية :


(أولاً) عندما شرع الرئيس خاتمي في تشكيل فريقه الإجرائي المُكوّن من سبعة عشر وزيراً جُلّهم من غير المخضرمين ( خمسة منهم جُدُد فقط ) وقع في إشكال إداري بتوزيره الدكتور عطاء الله مهاجراني وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، والدكتور مهاجراني رغم ما يمتاز به من منزلة علمية وثقافية راقية ( دكتوراه في التاريخ ) إلاّ أنه لم يُحسن إدارة الملف الثقافي في إيران بما كان ينبغي، فرغم أنه محسوب عملياً على يمين الوسط ومن المقربين للشيخ رفسنجاني، إلاّ أن في عهده بدأت الصحافة المنعوتة ( بالإصلاحية ) في الجنوح نحو مناحي خطيرة ذات تماس مـع خطوط عرفية وقدسية في المجتمع الإيراني بشكل عام والحوزوي بشكل خاص، وبدأت في التأسيس لمناخات مشحونة بسياسة التسقيط لرجال الدولة وبالرموز السياسية والدينية، والتعرض للمرتكزات الأصلية للدولة الدينية كالتشكيك بولاية الفقيه وقانونية بعض المواد الدستورية، وبدأت تلعب أدواراً فوضوية في لعبة الاستحقاقات الحزبية وتشجيع الإنتقام البيني للأجنحة والتيارات، بل لعبت أيضاً الدور نفسه الذي لعبته بعض الصحافة إبّان عهد الشاه محمد رضا بهلوي عندما زجّت نفسها في مهاترات وصراعات عقائدية وفقهية مع رجال الحوزة العلمية، وهو ما يعتبر أمراً خطيراً في مجتمع تسوده المحافظة الدينية .


 


فقبل عامين أو أقل قامت إحدى الصحف المتدثرة بعباءة الإصلاح بنشر رسم كاريكاتوري صوّرت فيه آية الله محمد تقي مصباح يزدي منظّر التيار المحافظ وعضو مجلس الخبراء وأحد فقهاء حوزة قم المقدسة على شكل " تنين " تخرج النار من فمه الأمر الذي دفع بطلبة العلوم الدينية إلى التظاهر والاعتصام وإيقاف دروسهم الدينية إحتجاجاً، ولم ينته ذلك الإعتصام إلاّ بعد أن طلب منهم المرشد ( والذي بدا محرَجاً أمام المؤسسة الدينية ) ذلك ، كما نشرت صحيفة " موج " الطلابية نصاً مسرحياً أشارت فيه بتهكم للإمام المهدي (ع) وهو حدث في غاية الدلالة ومدعاة للتأمل بأناة .


 


وبعدها نشرت صحيفة " نشاط " التي كان يرأس تحريرها ما شاء الله شمس الواعظين مقالات متتالية دعت فيها إلى إلغاء عقوبة الإعدام والقصاص من الفقه الإسلامي لأنه يتنافى وحقوق الإنسان وهو ما اعتبرته المرجعية الدينية مساساً بقدسية النصوص، أو كما حصل لصحيفة حيات نو عندما نشرت كاريتوراً يُصوِّر أحد رجال الدين في إحدى المحاكم الأمريكية وهو يُسحق بإبهام ( مُكبّر ) للرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت وكان الرجل المسحوق في الكاريكاتور قريب الشبه لوجه الإمام الخميني الشخصية الكازيمية المعروفة، والغريب أن نشر ذلك الكاريكاتور (رُغمَ أنه نُشِرَ أصلاً في العام 1936م) قد صادف ذكرى نشر إحدى الصحف الإيرانية في العهد البهلوي لمقال أتُهِم فيه الإمام الخميني بالخائن وهو ما فجر الشارع الديني ضد السلطة آنذاك .


 


كما قامت الصحافة  المحسوبة على تيار الرئيس بنعت رجال دين كبار في الحوزة العلمية وفي التيار المحافظ بأصحاب الفكر الطالباني أو بالتحجّر ومعاداة المدنية ودولة المؤسسات والتطور المجتمعي رغم أن العديد منهم هم أعضاء في مجلس خبراء القيادة ومجلس صيانة الدستور وقضاة في السلطة القضائية .


 


كما أطلقت وزارة الثقافة والإرشاد ( المهاجرانية ) العِِنان للصحافة ( اللامسؤولة ) لأن تتمادى في الاتهام والتجريح الشخصي لأفراد في المجتمع السياسي والديني والثقافي لهم صفة اعتبارية الأمر الذي دفع السلطة القضائية لأن تتعامل ( بموفوراتها القانونية ) مع الصحافة بغلظة في ظل تراخي قبضة الدكتور مهاجراني على خريطة الحدث الثقافي وما يُطرح في الإعلام المكتوب والذي بات بنظر قادة الثورة الأوائل تمادى خطير في المنظومة الثقافية المتعددة المشارب بعد أن وصلت الأمور إلى حد المنادات بأطروحات ضد أصل مشروعية الدولة الإيرانية ( الدينية ) وهو ما فُسِّر من قِبَل القيادة العليا بأنه تهديدٌ مباشر للكيان السياسي للدولة وبمبادئه الفلسفية، وبالتالي فإنها تعتقد بأن أي إجراء تتخذه ضد " تلك التصرفات " هو نابع من أن الدولة يجب أن تكون أمينة على حماية أصل نظامها ولا يمكنها أن تكون حيادية أمام اسلاميته وإطاره المعرفي والأيدلوجي، وهو حال جميع الدول بلا استثناء، فالولايات المتحدة الأمريكية قامت بحل الحزب الشيوعي الأمريكي مطلع السبعبنيات بعد أن بات يُشكل بديلاً سياسياً نشِطاً لنظامها الرأسمالي البرجماتي وتهديداً مباشراً لآيدلوجيته .


 


وأمام تلك الاستفزازات التي مارستها الصحف الإصلاحية وبغَضّ وتساهل من وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي ( المهاجرانية ) بدأت الأجواء في التعكر والانشداد الأمر الذي دفع المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله السيد علي الخامنئي لأن يتدخل ( ووفقاً لصلاحياته الدستورية ) طالباً من البرلمان عدم مناقشة قانون الصحافة المُقر من قِبَل المجلس التشريعي الخامس وقوله بأن أي تعديل في قانـون الصحافة " ليس في مصلحة نظام الحكم " ويجب أن لا تقع الصحافة في أيدي " أعداء الإسلام والثورة "  رغم أن مناخ الحرية المتاح في إيران يستوعب الكثير من النقد والأطروحات المغايرة كأطروحات البرفوسور عبد الكريم سروش ومجتهد شبستري وقطاعات واسعة من المؤسسة الدينية والاجتماعية .


 


(ثانياً) لقد وجد الرئيس محمد خاتمي في خصومه المحافظين شَمّاعة يضع عليها إخفاقه في تحقيق وعوده الإنتخابية ( الأفلاطونية ) فكلما وقع إخفاق في جنبة ما أشار ( أو أُشير ) إليهم باعتبارهم خصوم المجتمع المدني الذين يقفون حائلاً بينه وبين تحقيق ذلك، وأنه مغلول اليد بسبب قلة صلاحياته كرئيس جمهورية، وقد صرّح بذلك في سنوات ولايته الأولى بأحد المؤتمرات في طهران " بأن الرئيس لا يستطيع وقف انتهاك الدستور ولا العمل على تطبيقه " وأضـاف ما مــُؤدّاه  " أن سلطاته الرئاسية محدودة جداً، وأنه وبعد مرور ثلاث سنوات ونصف السنة على تقلده الرئاسة بات يُدرِك الآن أن رئيس الدولة لا يملك الصلاحيات الكافية لإنجاز عمله كما ينبغي " ودعا إلى إزالة الغموض في النصوص لكي يستطيع الرئيس القيام بمهماته وفق صلاحيات كاملة وقانونية .


 


 وقد شكل ذلك إنفصاماً خطيراً في المفاهيم الدستورية في الدولة الإيرانية خصوصاً بعد أن شمل ذلك الاتهام السلطة القضائية ومجلس صيانة الدستور وإلى حد ما مجمع تشخيص مصلحة النظام وقوات التعبئة والحرس الثوري وكلها جهات ركنية في النظام .


 


وفي مسح استطلاعي محدود أجراه أحد مستطلعي الرأي العرب خلال زيارته لإيران قبل ثلاثة أشهر أظهر بأن الكثير من عقلاء القوم باتوا يؤكدون غير مرّة بأن ذلك الخطاب الخاتمي في تجريم الكتل المحافظة وبمعيتها مؤسسات مهمّة في النظام قد قسم الناس إلى سماطين كلاهما فَقَدَ الثقة في أداء وشعارات النظام الإسلامي، كما أفقد الأخير الكثير من المصداقية من لحمه الحي، الأمر الذي ترك حيزاً خطيراً يُمكن أن تتفاعل فيه الكثير من الأرقام غير وطنية .


 


وفي قراءة سياسية وتاريخية ودستورية لذلك الواقع والخطاب يمكن تسجيل الآتي :


(1) أن خطاب الرئيس الخاتمي يعتبر هَزّاً لمرتكزات النظام الاجتماعي والسياسي لشكل الدولة، وعدم تقدير للدعم المُتواصِل الذي أعطاه ويعطيه إياها المُرشد الأعلى آية الله علي الخامنئي الذي كان ( ومن قبله الإمام الخميني ) يتنازل عن الكثير من تلك الصلاحيات المُحددة في المادة 110 لمسؤولين تنفيذين، فقد أعطى الإمام الخميني صلاحية إدارة الحرب إلى بني صدر، وعيّنه نائباً للقائد العام للقوات المُسلحة، ومن بعده إلى هاشمي رفسنجاني، كما أعطى المرشد الحالي آية الله الخامنئي عشر صلاحيات في الأمن الداخلي لمحمد علي بشارتي وزير الداخلية الأسبق في العام 1993 ، وهو مُوكِلٌ الآن صلاحيات قيادة القيادات العليا لقوى الأمن الداخلي التي هي من صلاحياته لوزير الداخلية الحالي عبد الواحد موسوي لاري، كما أنه فَوّض البرلمان قبل عام ونصف لمراقبة مختلف أجهزة النظام ومؤسساته بما فيها تلك التابعة له نفسه .


 


 (2) كما أن الموقع البارز للرئيس وجهاز الدولة الجمهوري في إيران لم يكن يوماً من الأيام قاصر الصلاحيات، خصوصاً وأن ذلك المنصب دُعِّمَ مرتين، مرة في التعديل الدستوري الذي جرى في 8/7/1989 م بأمر من الإمام الخميني الراحل، ومرة أخرى بعد وفاته عندما ألغِيَ منصب رئيس الوزراء وَوُحِدَ العمل التنفيذي بشخص رئيس الجمهورية .


 


(3) أن الدستور الإيراني أفرد ثلاثين مادة من الفصل التاسع تخص جهاز رئاسة الجمهورية، وأن الرئيس بما هو رئيس للجمهورية هو المسؤول التنفيذي الأول في المجلس الأعلى للأمن القومي أعلى سلطة أمنية ودفاعية في إيران طبقاً للمادة 176 من الدستور، كما أن رؤساء إيران الخمسة السابقين (بازركان، بني صدر، رجائي، الخامنئي، رفسنجاني ) لم يشكُ من نقص في صلاحياتهم الرئاسية .


 


(4) مثّل التشريع الدستوري للمجالس المحلية ( 200 ألف ممثل محلي ) نقلة نوعية في العمل التنفيذي والإداري، وهي المجالس التي تتوزع على محافظات إيران وتعمل على تحقيق اللامركزية متيحة إمكانات جديدة للمؤسسات الإقليمية للإسراع بتنفيذ البرامج الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية والصحية والثقافية والتعليمية والرقابة على شؤون الأرياف والنواحي والمدن والأحياء.


 


وهنا وقبل أن أضع نقطة النهاية للحديث يجب أن أتساءل : هل ما قلناه يمكن أن يقرأه المعنيون في إيران من الإصلاحيين كما هو بدون أية رتوش أو ضغوط من الأيدلوجيا ؟  .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع