في البداية : أطلب من كافة الأخوة والأخوات الأعزاء ( أيدهم الله تعالى بتوفيقه المبين ) أن يتأملوا جيدا في مضامين هذا البيان ، وأن يكونوا حريصين على دقة فهمه ، وتفهم دوافعه .. في هذه المرحلة العصيبة التي تمر بها ساحتنا الوطنية .
ولكي تكون المضامين أكثر تحديدا وأكثر وضوحا وأيسر في الفهم .. سوف أجعلها ( كالعادة ) في نقاط .
النقطة الأولى : لقد اكتفيت في موضوع قانون الجمعيات وفي غيره من المواضيع المثارة في ساحتنا الوطنية .. ولا زلت مكتفيا بإبداء الرأي ، ولم أتجاوز حدود ذلك إلى التحرك من أجل أن يؤخذ بالرأي أو يعمل به في الساحة ، وقد وجد في الساحة الوطنية فريقان قد مارسا الضغط ( بحسن أو بسوء نية ) إلى درجة الإيلام النفسي الشديد ( أحيانا ) .. والفريقان هما :
الفريق الأول : مارس الضغط من أجل أن أتجاوز حدود الرأي إلى التحرك من أجل أن يجد الرأي طريقه إلى العمل .
الفريق الثاني : مارس الضغط من أجل أن أمتنع عن إبداء الرأي بحجة أن إبداء الرأي : قد يؤدي إلى مصادرة الرأي الآخر ، ولعدم توفر مقومات السير وفق الآراء التي أطرحها في الساحة الوطنية ، بغض النظر عن صحتها أو خطئها .. مما يؤدي إلى فراغ خطير وإرباك في الساحة .
وللحقيقة : فإني قد امتنعت عن التحرك استنادا لرؤية فقهية وسياسية وأخلاقية ، ولكني لم أجد أي أساس علمي أو عملي صحيح أستند إليه في الامتناع عن إبداء الرأي .. وعليه فقد قررت : أن استمر في إبداء الرأي وفق ضوابط معينة ، تفرضها الآداب الإسلامية والمصلحة العامة الدينية والوطنية .
النقطة الثانية: إني أرى بأن الأوضاع الدستورية والقانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ( وغيرها ) في الوطن العزيز .. تسير من سيء إلى أسوء ، وأفهم أن الموقف الديني والوطني المبدئي والأساس المطلوب في هذه الحالة : هو الرفض لهذه الأوضاع ومقاومتها والسعي إلى إصلاحها .. وليس الاستسلام لها .
قال الله تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .. وأولئك هم المفلحون } ( آل عمران : 104 ) .
النقطة الثالثة : لقد كانت أوربا في العصور الوسطى تعيش أوضاعا أسوأ من أوضاعنا في العالمين : العربي والإسلامي ، ولكنها أنجبت فلاسفة ومفكرين رفضوا تلك الأوضاع وأدانوها وقالوا كلمة الحق في بيان حقيقتها وما ينبغي أن تكون عليه أوضاع المجتمع وحقوق الإنسان في بلدانهم وفي العالم .. ونشروا الوعي السياسي والحقوقي بين مواطنيهم ، فاستلهمت شعوبهم تلك الأفكار والفلسفات ، وثارت ضد أوضاعها الظالمة والمتخلفة والفاسدة .. وأقامت الديمقراطيات : الجمهورية والملكية الدستورية ، فتقدمت بلدانهم ولازالت تتقدم .
أما نحن العرب والمسلمون : فقد كان لنا مجد وتاريخ .. ولكننا ضيعناهما ، وأصبحنا ننتقل من أوضاع سيئة إلى أوضاع أسوأ ، وتكرس الظلم والجهل والتخلف والاستبداد والفساد والتمييز والفقر في بلداننا العربية والإسلامية لقرون متعاقبة ، وكل ذلك نتيجة للمنهج التبريري ومسايرة النخب والمفكرين وقوى المعارضة للسلطات .. تحت عناوين براقة مثل : الحكمة والواقعية والدبلوماسية ، وقد حمل البعض ( بغير حق ) الإسلام العزيز مسؤولية ذلك ، لأنه الدين الذي تدين به هذه الشعوب ، فتبا للحكمة والواقعية والدبلوماسية التي تسيء للإسلام العزيز ، وترسخ الظلم والفساد والشرور والاستبداد والتخلف في المجتمعات .
النقطة الرابعة : إن الإسلام العزيز لم يأت ليكون عقيدة محبوسة في عقول المسلمين أو مجرد طقوس دينية : كالصلاة والصيام والحج ، وإنما نزل كمنهج لإصلاح الحياة ومكافحة الظلم والفساد والشر والاستبداد والتخلف والتفرقة بين أبناء البشر ، وإقامة العدل وتحقيق التقدم والرخاء للبشرية ، ولم يجيز لأتباعه الرضوخ للقهر والاستبداد والاكتفاء بالتفرج على الأحداث .. وإنما أمرهم وأوجب عليهم الأخذ بزمام المبادرة في المواجهة والصمود وعدم اليأس أو الخوف من احتمال الهزيمة .
قال الله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر .. وتؤمنون بالله } ( آل عمران : 110 ) .
وقد أجمع علماء الإسلام : أن الوعد الإلهي بانتصار المستضعفين على الظالمين والمستكبرين في الأرض ، لن يتحقق إلا إذا تعلقت قلوب المستضعفين بالرحمة الإلهية ، وساروا في طريق الكفاح والثبات والمواجهة ، وتحملوا كل المصاعب والأخطار والتضحيات في سبيل خلاص مجتمعاتهم من شرور الظلم والاستبداد والتخلف والفساد والتفرقة وانتهاك حقوق الإنسان .. وعارها ، وإقامة العدل والتوازن ، وتحقيق التقدم والرخاء والازدهار .. وتعتبر الشهادة والشهيد من أبرز المفاهيم الإسلامية الساطعة في سماء الكفاح ودنيا المكافحين .
إن الإسلام العزيز ( بحق ) دين العزة والكرامة والاقتدار ، ولكن المسؤولية هي مسؤولية المسلمين ( ولا سيما الرموز والعلماء والقيادات والنخب ) في التقصير عن أداء التكليف ، وعدم تجسيد المفاهيم والمبادئ الإسلامية العظيمة على أرض الواقع .. تحت مبررات واهية .
إن المسؤولية اليوم ( هي مسؤولية دينية ووطنية وقومية وإنسانية ) تقع على عواتق الرموز والقيادات والنخب الإسلامية والوطنية ، فهي مطالبة بأخذ زمام المبادرة لقيادة الشعوب ، وغسل عار التخلف والظلم والاستبداد والفساد المتراكم لقرون عديدة في البلدان العربية والإسلامية ، وخلق أوضاع متقدمة على كافة الأصعدة ، وتبرئة الإسلام العزيز مما وجه إليه من تهم باطلة ، وذلك برفض الأوضاع الظالمة والمتخلفة والثورة عليها لإصلاحها .. وليس بتبريرها والاستسلام إليها .
النقطة الخامسة : إن قانون الجمعيات السياسية سوف ينقل الساحة الوطنية وقوى المعارضة فيها ( ولا سيما جمعية الوفاق ) من حالة إلى حالة أخرى ( في حالتي التسجيل أو الرفض معا ) فلن تكون الساحة الوطنية ، ولن تكون جمعية الوفاق وغيرها من الجمعيات السياسية بعد القانون ( في الحالتين ) هي نفسها قبله ، فلن يكون هناك إجماع على الخيارات ، وسوف تترتب نتائج طبيعية على انضواء القوى السياسية تحت هذا القانون أو رفضها ذلك ، ومن شأن تلك النتائج أن تغير وجه الساحة الوطنية.. وأهمها النتائج التالية :
النتيجة الأولى : إذا رفضت القوى السياسية الانضواء تحت هذا القانون الظالم والمقيد للحريات .. فسوف تكون النتيجة بطبيعة الحال : تصعيد المواجهة السياسية ( المستحقة ) مع السلطة ، والخيارات المتاحة لتنظيم المواجهة كثيرة .. إذا توفرت الإرادة السياسية لتنفيذها .
النتيجة الثانية : إن انضواء أية قوة سياسية تحت قانون الجمعيات يترتب عليه اعترافها بدستور المنحة ، ومن شأن الانضواء ( أيضا ) أن يصيرها إلى قوة مسايرة ، فلن يكون في وسعها أن تعمل كقوة معارضة تحت مظلة هذا القانون المقيد لحرية العمل السياسي .. وعليه : لن تستطيع أن تساهم في أية عملية إصلاح حقيقية لا في المسألة الدستورية ولا في غيرها من الملفات الساخنة .. مما يعني ( عمليا ) أنها مع القبول بالأمر الواقع .
أما القول بالتسجيل والتحدي : فلن تكون له أية مصداقية في الخارج ، لأن القانون ينص على حل الجمعية قضائيا في حالة مخالفتها لقانون الجمعيات أو غيره من القوانين .
ويمثل التطبيق لهذا القول خطأ سياسيا : لأن أي قانوني محايد في العالم تحتكم إليه السلطة أو الجمعيات السياسية ( في حالة معاقبة السلطة لأية جمعية سياسية لمخالفتها القانون .. مع قبولها العمل به ) سوف يقف إلى صف السلطة ، ويخطئ الجمعية قطعا .
وأما القول بالنفوذ من ثغرات القانون : فيمثل خطأ استراتيجيا ، لأن بناء دور المعارضة في دولة القانون ( وهي جزء أساسي في النظام الديمقراطي لا يمكن الاستغناء عنه ) يجب أن يستند إلى القانون .. وليس على النفوذ من ثغرات فيه !!
وفيما يخص جمعية الوفاق الوطني ( وأية جمعية شعبية أخرى ) : فإنها إذا انضوت تحت قانون الجمعيات السياسية ، فسوف تتحول تدريجيا من كونها جمعية شعبية لتصبح جمعية نخبوية ، لأنها لن تستطيع أن تمارس العمل الجماهيري الشعبي في ظل عملها بقانون الجمعيات ، وسوف تقدم جمعية الوفاق ( أرادت أم لم ترد ، علمت أم لم تعلم ) مكانة الرموز الدينية ومصداقيتهم قربانا يسيرا على مذبح الانضواء ( إذا مثل الانضواء الموقف الأساس للتيار.. وليس الثانوي ) .
إني إذ أعبر عن رأيي هذا .. أبراءً للذمة ، فإني أترك للنتائج في مستقبل الأيام .. الحكم الفصل على هذا القول أو الادعاء الخطير !!
النقطة السادسة : إن الموقف الإسلامي المبدئي والأساس من قانون الجمعيات السياسية ( حسب فهمي وتقديري ) هو رفضه ومقاومته وعدم العمل به ، ولكن إذا وجدت شرائح إسلامية أو وطنية ترى بأنها غير قادرة على المواجهة السياسية مع السلطة أو أنها لا ترى المصلحة في ذلك ، وتريد أن تخدم أبناء الشعب من خلال مسايرة السلطة .. فلها ذلك بشرطين :
الشرط الأول : أن لا يمثل موقفها الموقف ولا الحالة الإسلامية والوطنية الأساس ، وهذا يتطلب أن لا تكون الرموز الدينية والوطنية الكبيرة ، ولا الأغلبية الجماهيرية .. جزءا منه .
الشرط الثاني : أن لا يمثل موقفها عقبة في وجه المواجهة السياسية للسلطة وقوى الإصلاح .
النقطة الثامنة : إذا فرضنا ( جدلا أو واقعا ) أن مقومات المواجهة السياسية مع السلطة .. غير متوفرة في الوقت الراهن ، فإن المطلوب ( عقلا وشرعا - حسب فهمي - على أساس تصنيف شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمن شروط الواجب كالطهارة للصلاة ، وليس الوجوب كالاستطاعة للحج ) هو : السعي لتوفير المقومات ، وعدم إغلاق الطريق ، وتوفير المقومات للمواجهة السياسية مع السلطة بهدف الإصلاح .. هو : في غاية الإمكان ( بحكم العقل وتجربة انتفاضة الكرامة المباركة ) والخيارات فيها كثيرة .. إذا توفرت الإرادة السياسية لتنفيذها ( فالتحدي ـ من وجهة نظري ـ ليس في وجود الخيارات ، وإنما في توفر الإرادة السياسية اللازمة لتنفيذها !! ) .
أما القبول بالأمر الواقع والانضواء تحت قانون الجمعيات الظالم والمقيد للحريات .. على أساس هذا القبول : فهو مرفوض ( من حيث المبدأ ) عقلا وشرعا .. كما أفهم .
والخلاصة : أن الموقف الإسلامي والوطني المبدئي الأساس ( حسب فهمي وتقديري ) هو الرفض لهذا القانون ، ومقاومته ، وعدم العمل به ، والأخذ بزمام المبادرة في المواجهة السياسية مع السلطة بهدف الإصلاح ، وأن تكون مطالبنا ومواقفنا السياسية قوية ومتقدمة ، وأن نسعى من خلالها لخلق أوضاع قوية متقدمة نتحدى بها المواقف والأوضاع التي تسعى السلطة لفرضها على الشعب وتكبيل المعارضة من خلالها ، وأن نحذر من جعل مواقفنا على طريق الإصلاح السياسي والتطوير ، عبارة عن ردود أفعال ننجر من خلالها وراء أجندة ومواقف السلطة .. أما الموقف الثانوي : فيتمثل في إتاحة الفرصة لكل شريحة إسلامية أو وطنية ترى العمل وفق هذا القانون بالشروط المبينة أعلاه .. وسوف التزم عمليا بهذا الرأي ( ككل ) وأنصح به .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
حرر بتاريخ : 1 / شعبان / 1326هـ . التوقيع
الموافق : 7 / سبتمبر ـ أيلول / 2005م .
عبد الوهاب حسين علي
التعليقات (0)