واصل سماحة السيد ميثم المحافظة سلسلة محاضراته الرمضانية بحسينية الحاج أحمد بن خميس خلال النصف الثاني من شهر رمضان المبارك ، وذلك في ليلة التاسع و العشرين من شهر رمضان لعام 1443 هـ ، وتحت عنوان " سنعذبهم مرتين " ، إبتدأ سماحته بمقدمة عن إثارة للمتخصص في علوم القرآن الأكاديمي الدكتور السوري علي منصور كيّالي ، وهو عالم معروف له الكثير من الحلقات ، وله بعض الأطروحات الجيدة ومنها لا ينبغي السكوت عنها ، و قد درس الدراسات الاسلامية أكاديميًا و لكن سننقاش الأمور بموضوعية ، من ضمن ما لا ينبغي السكوت عليها الإثارة التي نشرها ، وهو نفيه لوجود الحياة بعد الموت في القبر ، ويصبح الإنسان في سبات عميق الى يوم القيامة ويقدم له كتاب حسابه ثم يحاسب ، والتي توجد نوع من التشكيك في حياة القبر و حياة البرزخ .
الدكتور قدّم أدلة و فهم فهمًا خاصًا لبعض الآيات ، يقول بأن رواة النصوص عن عذاب القبر من حياتٍ و عقارب وضغط و وحشة القبر ، إنّما ألفوا ذلك من أجل تخويف الناس ويستقيموا و يستمعوا للتوجيهات الإسلامية ، والروايات المنسوبة للنبي (ص) لم ترد عنه ، فمن أوجد ذلك انما كان لتخويف الناس وإلزامهم بالأحكام الشرعية ، لا ينبغي السكوت على هذه الإطروحة لأنها تمس عقيدة أساسية من عقائد المسلمين و ليست لطائفة دون أخرى ، لوجود الروايات و الآيات في وجود حياة قبل القيامة و هي البرزح ، إما يُعذّب فيها الإنسان أو يُنعّم .
أولًا : نستعرض الآية المباركة ، من سورة البقرة " كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) " ، هناك خمس مراحل بينتها الآية ، وقد بدأت الحياة بالموت ، و هذا يعني أن الشيء موجود لكنه ميتًا ، و الآية المباركة في سورة الإنسان " هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1) " ، تدل على أن الإنسان قبل أن يخلقه الله ، كان لا شيء ولا يصح وصفه بالميت أو الحي ، فليس ذلك الميت المقصود في الآية ، و هي من الأخطاء الفنية التي وقع فيها كيّالي ، فيقول العلماء أن المقصود " وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا " أي أمواتًا قبل حياة الجنين عند الشهر الرابع ، وقد كانت صورته الكاملة ميتة قبل أن تلج وتُبث فيها الروح ، " فأحياكم " فيلد و يعيش في الدنيا " ثم يميتكم " توارى جثته ، ملك الموت يأخذ الروح و يُبقي الجسد ، الجسد يُقال له ميتًا و الروح هي الباقية ، هنا الشبهة التي وقع فيها الدكتور وهو وجود الإنفصال بين الروح والجسد ، فالروح هي الباقية .
من سورة البقرة " وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ (154) " نقول بأننا متفقون أنّ الجسد ميتًا ، لكن الروح التابعة لهذا البدن فهي باقية ، هذا الأساس ركز عليها الشيخ جعفر السبحاني لحل مشكلة التواصل مع الأموات ، فلا نعني أن الجسد في القبر أنه حيّ ، بل نؤكد على أنه سيتحوّل الى رميم و عظام نخرة ، فنحن نتعامل مع روح البدن التي خرجت منه باقية ، " ثم يحييكم " أي في حياة البرزح ، اما في وادي السلام يتنعم فيها المؤمنون و إما وادي برغوث و الذي فيه العذاب ، فالمسلمون يجمعون على حياة البرزخ ، و الآيات المتحدثة عن الميت تقصد الجسد مثل الآية في سورة الروم "فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)" ، و الآية المباركة في سورة فاطر " وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ (22) " .أما الآيات التي تُخاطب حياة البرزح فإنها تخاطب الروح ، الى حد يومنا هناك من لا يقفه في أن الروح هي التي نتواصل معها و ليست البدن الذي يتحلل وتلعب به الديدان ، وهي النقطة الأساسية في الإشكالات التي يبحث فيها الدكتور و ما يطرحه فئة من المسلمين .
ونرد على فكرة التخويف و الترهيب ، فان ذلك منهج قرآني ، من سورة الإسراء " ۚ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) " لا شغل لنا في الأمور النظرية و النفسية فالتخويف و الرجاء منهجية واضحة في القرآن ، شديد العقاب يقابلها أرحم الراحمين ، مشاهد جنة في قبال مشاهد النار ، بالإضافة أنه لا يوجد بلد في الدنيا ليس فيه عقوبات و جزاءات ، فلا تنتزع و تنفي منهجية القرآن الواضحة في العقاب و الثواب ، من سورة الإسراء " وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ۚ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ۚ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) " .
ثانيًا : الأمر لا يسدعي أن تنفي كل الروايات بقلم ، و هذا تنكر مُستعجل لوجود الآيات و الروايات الكثيرة ، فلا داع للقول بأن السبب في كتابة الروايات هو التخويف ، الشبهة الثانية لعلي منصور الكيّالي ، يقول بأن الآيات التي تحدث الأجساد لا حياة فيها ، لنلتفت الى الروح لا الى البدن . من الإشكالات التي يطرحها الدكتور ، كيف لله عز وجل أن يعذب في القبر قبل أن يستلم العبد كتابه يوم القيامة ، وهذا يدلّ على غيابه عن المنهجية الواضحة في القرآن و هي (الجزاء المرحلي) ، ومعنى ذلك أن الله عز وجل يُعطي جزاءً للإنسان اما ثوابًا أو عقابًا في الدنيا أولًا قبل الحساب ، لمرحلة معينة وجرعة معينة ، ثم البرزخ في مرحلة تتناسب مع البرزخ ثم يوم القيامة يأخذ جزاؤه في مرحلة تتناسب مع هول يوم القيامة ، فلا يصح ان يُقال كل حساب ما دون فترة يوم القيامة لا عدالة فيه ، حيث يقول الله عز وجل في سورة الأعراف " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) " ففي الدنيا يحصل الإنسان على جزاء مرحلي ، وهو أمرُ متحقق في الدنيا ، و كل الأقوام الذين تنكروا للأنبياء عذبهم الله بعذابات إما بخسف أو غيرها ، وهذا يدلّ على الجزاء المرحلي ولا علاقة له باستلامه كتابه أو لا .
أيضًا قوله تعالى في سورة طه " وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124) " ، الله يثيب بمرحلة معينة و جزاء معيّن في الدنيا ، أيضًا غرق آل فرعون في الدنيا ثم في البرزخ ، من سورة غافر " فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ۖ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) " و الجزاء في يوم القيامة في نار جهنّم ، عالم القيامة هو من ينفتح على كل الجزاءات بأوسع ما يمكن من ثواب أو عقاب .
وهناك لفتة لطيفة للدكتور نختم بها ، يقول أن ابليس أكثر الناس استمتاعًا ، وذلك بتخطيه مرحلة العذاب في القبر ، وهذا ينمّ على بعض التوهّم الواضح عند الدكتور ، نقول بأنه ليس كُل من يعذّب في الدنيا سيعذّب في القبر ، وليس كل من يعذّب في القبر سيعذب في الآخرة ، و البعض قد يعذّب تارة و أخرى لا يُعذب ، فالتعذيب أحيانًا على نحو التطهير ، والسيد الخميني في كتابه المعاد ، في الجزاء و العقاب يقول حتى أن النار رحمة و تطهير ، فقد ينتهي عذابه بعد فترة ، وهذا ينفي أن ابليس مستفيد من الأمر حيث أنه في قعر جهنّم مخلّدا فيها ، و لعلّ الملايين من البشر سيعذبوا في القبر ولن يدخلوا النار و ان دخلوها لن يخلّدوا . فيخالف ذلك منطق مقدار جزاء الناس مع شدة جزاء و عقاب ابليس . وهذه شُبهة مستعجلة ، فلنقرأ عن العقائد وخصوصًا المعاد لرد الشبهات و الإشكالات من هذا الجانب أو من جانب الطواف الأخرى ، فالإطلاع مهم جدًا وما هو الا ترتيب لبعض النقاط في العقيدة و الأصول .
كان الحسين عليه السلام وبعض من معه من خصائصه تشرق ألوانهم وتهدئ جوارحهم وتسكن نفوسهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا لا يبالي بالموت! فقاللهم الحسين عليه السلام: صبرا بني الكرام، فما الموت إلا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر وما هو لأعدائكم إلا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب. إن أبي حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وآله أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر والموت جسر هؤلاء إلى جناتهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم، ما كذبت ولا كذبت.
التعليقات (0)