شارك هذا الموضوع

الإستراتيجية الأمريكية تجاه إيران

شاءت الأقدار لأن تبقى العلاقات الإيرانية الأمريكية رهينة سياسات استحكمت فيها الأيدلوجيا الإمبريالية بقسوة حتى غدا الأمر وكأنه مجموعة من العقائد اليمينية الصمّاء المُتقَولبة الغير قابلة للتسييس أو التعاطي وفق منظومة السيادة والاحترام المُتبادل، فتأثرت بذلك خطوط محاذية للهيب تلك العلاقة المأزومة بل وفي بعض الأحيان أصيبت بالتعثر والجمود .


إن رحلة الشد والجذب القائمة بين الجمهورية الإسلامية في إيران والولايات المتحدة الأمريكية ليست نتاج مماحكات وتباينات آنية أو طارئة في مفاهيم إدارة التنافس والصراع القِيَمي والبراجماتي، بل هو اجترار لسلسلة طويلة من التنابذ الثنائي، المهووس بخطاب سياسي شديد اللهجة يقترب بالأشياء حيناً إلى حافة الهاوية وحيناً بالتهديد السافر والتضاغط ثم يخبو بحذر ليبقى ثأراً نائماً لكنه جاهز لكي يستيقظ في أي وقت مُعيداً معه أحقاداً وتناكفاً واستصحابات تفرض أجندتها على الحدث .


كما أن التاريخ المُثخن بالعداء والذاكرة البائسة والاستقطاب الثنائي بينهما قد جعل من محاولات إعادة المياه إلى مجاريها أمراً كسيحاً لا يُمكن البناء عليه أو الاتكاء على مرتكزاته، وبالخصوص الذاكرة الإيرانية المُفعمة بأحداث تراجيدية تُجَدّد نفسها على الدوام حين ترتفع بقوة قبضات أيدي المتظاهرين في شوارع طهران وتعلوا جماجمهم المُعصّبة بشعارات الثورية والتضحية .. فمن إسقاط حكومة مصدق في العام 1953 من قِبَل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية السي آي أي إلى معاضدة واشنطن للنظام البعثي في العراق إبّان حرب الخليج الأولى ومروراً بضرب المنشآت البترولية في عبدان عام 1988 من قِبَل الأسطول الأمريكي المرابط في مياه الخليج ومن ثم إسقاط الطراد الأمريكي فينينس لطائرة الإيرباص الإيرانية 1987 ومقتل جميع ركابها الـ 290 .


ثم تتابعت تلك السياسة الأمريكية المعادية تجاه إيران لتُضيف ما يكفي لوأد أي تحرك بالاتجاه الآخر، فقد دأبت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على البيت الأبيض على :


1.    اتباع سياسة الاحتواء المزدوج Dual Contaninment    1993 ضد العراق وإيران والذي كان مُنظّرها السفير مارتن إنديك .


2.    سن قانون مقاطعة الاستثمار المعروف بقانون " داماتو " 1996 والذي يحظر على الشركات الأجنبية استثمار أكثر من 40 مليون دولار في قطاعي النفط والغاز الطبيعي .


3.    إبراز إيران كدولة مناوئة للسلام العالمي أمام الأسرة الدولية .


4.    عرض ومتابعة الشكاوى القانونية في المحاكم الأمريكية ضد إيران .


5.    الضغط على روسيا والصين لوقف تعاونهما النووي مع إيران .


6.    الضغط على أوربا واليابان والعالم العربي وآسيا الوسطى ودول القوقاز بهدف تقليص تعاونهم مع إيران وتقييدهم بشروط .


7.    الضغط على تركيا لإيقاف اتفاقها الضخم مع طهران والقاضي بأن تُزوّد الأخيرة أنقرة بالغاز المُسال ( مدة العقد 20 عاماً بتكلفة تقارب 23 مليار دولار ) .


8.    تخصيص مبلغ 20 مليون دولار من قبل الكونغرس الأمريكي قبل عامين بغرض ممارسة أعمال استخباراتية سرية لزعزعة النظام الإسلامي الحاكم في إيران .


9.    تدبير حملات إعلامية واسعة حول المخاطر الناجمة عن قدرات إيران الصاروخية والعسكرية لا سيما على صعيد القدرات النووية .


10.                      تشغيل الشبكات التلفزيونية والإخبارية الفارسية الموجه ضد إيران .


11.                      زج إسم إيران فيما يُسمى بـ " محور الشر " في كانون الثاني / يناير 2002 .


12.                      إلغاء الحضر الأمريكي على تصدير الأسلحة إلى طاجيكستان لخلق توازن جديد في آسيا الوسطى .


13.                      العمل على مد حلف الناتو إلى آسيا الوسطى بهدف فصل إيران من الشمال والشمال الشرقي عن كل من روسيا والصين .


14.                      الاندفاع نحو آذربيجان وأوزبكستان بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 لخلق فرص حقيقية للتواجد الأمريكي بالمنطقة .


 


وبعد أحداث 11 أيلول / سبتمبر وحين أُقِرّت وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي بدا الموقف الأمريكي جدّ مختلف، فقد حتّمت الوثيقة على سياسة الدولة الخارجية الانتقال من العمل التعاوني النسبي مع القوى الدولية إلى التحرك المنفرد متجاوزةً كل مكتسبات العمل الجمعي والقانوني الدولي السائد منذ الحرب العالمية الثانية، ورفض الارتكاز على العقوبات بالأساس في صنع السياسة الخارجية خصوصاً لما لها من آثار سيئة على الاقتصاد الأمريكي واللجوء مباشرة للقوة العسكرية .


وعليه فإن السياسة الأمريكية تجاه إيران باتت أكثر تماساً ومباشرة من ذي قبل خصوصاً مع تنامي بعض الاتجاهات القوية داخل الإدارة الأمريكية ممن يُسَمّون بالصقور الذين يتبنون توجهات متشددة في السياسة الدولية وبالخصوص تجاه إيران، حيث يضعونها كهدف مستقبلي لتدخل أمريكي حاسم، ويشمل هذا الاتجاه أسماء مثل ريتشارد بيرل، وبول ولفوويتز ودوجلاس فيث، وهؤلاء يؤكدون أن الولايات المتحدة يجب أن تستغل فرصة النجاح العسكري الكبير في العراق ضد الأنظمة المتمردة اليوم قبل الغد وأن برامج إيران النووية وبرامجها لتطوير الأسلحة غير التقليدية ودعمها العسكري والمالي لحركات المقاومة الفلسطينية وحزب الله، ودورها المزعوم في انفجار مقر المارينز في بيروت عام 1983 والذي قُتِل فيه أكثر من 250 من جنود البحرية الأمريكية، تُعدّ جميعها أسباباً كافية لتوجيه ضربة عسكرية خاطفة لها .


وقد صاحبت تلك الرؤية الراديكالية ظهور دراسات من مراكز أبحاث يمينية ساعدت في إذكاء تلك الإستراتيجية بخطط أخرى تدعيمية، وهو ما نراه في حديث رابت ساتلات مدير مؤسسة واشنطن الذي ذكر صراحة في فصلية  المصالح القومية  على أن واشنطن " يجب أن تحاصر إيران في قضايا الأمن الداخلي والخارجي بحيث تشغلها عن التقدم ووضع العراقيل أمامها، وزجها في مواقف تضطر فيها للدفاع اليومي عن نفسها ضد عشرات الأنواع من الاتهامات والمخاطر وهو ما سيؤدي إلى استياء عام في الداخل بالإضافة إلى وجود الثغرات السياسية في النظام الإيراني وازدياد المشاكل يمكن أن يضع البلاد أمام تحديات كبيرة "


كما علّق ريشارد بيرل أحد القادة الجمهوريين الكبار في خطاب له بتاريخ 14 نوفمبر 2001 في مؤسسة السياسة الخارجية " بأن الطريق الوحيد لمواجهة إيران بعد أحداث 11 أيلول / سبتمبر هو تغيير بنية السلطة في إيران " .


ومما تُؤكده وثيقة الأمن الإستراتيجي الأمريكي أن الولايات المتحدة الأمريكية انتقلت فعلياً من سياسة الردع والاحتواء إلى استراتيجية الهجوم الوقائي ومن الردع الإستراتيجي التي كانت سائدة في الحرب الباردة إلى الحرب الإستباقية Preemptive وهي أجندة تذهب إلى الحد الأقصى في العلاقات الدولية، خصوصاً وأن الولايات المتحدة عملت بذلك المبدأ منذ العام 1800 وخاضت منذ قيامها وإلى الآن أكثر من 131 حرب من واندود كني إلى العـــراق ( اللافت أنها لم تحصل على تفويض شرعي من الكونغرس سوى في ست حروب فقط !!! ) .


 ومع انتهاء السلام الأمريكي Pax Americana كما قال أمانويل فالرشتاين صاحب كتاب نهاية العالم فإن السياسة النيوإمبريالية تبقى سمة أمريكية فاقعة، ليبقى السيناريو الأوفر حظاً  بالنسبة لليمينيين في الإدارة الأمريكية ومن لفّ لفهم لإضعاف أو إسقاط النظام الإسلامي الحاكم في إيران كالتالي :


·       توجيه ضربة قاصمة لبرامج التسلح الإيرانية التي تطورت كثيراً بفعل الدعم الروسي والهندي والأوكراني والكوري الشمالي .


·       توجيه ضربة قاتلة للتيار المحافظ في المشهد السياسي الإيراني عن طريق اختراقات تنظيمية واغتيالات سياسية على النحو الذي يفسح المجال لتيار الإصلاح المتطرف المُستقوي بضغوط الإدارة الأمريكية .


·       إثارة القلاقل العرقية والإثنية داخل إيران، وخصوصاً ما يتعلق بالورقة الآذرية بعد أن انحسرت الآمال الأمريكية للإعتماد على الورقتين الأحوازية (العربية) والكردية، فالتقارير الديمغرافية تشير إلى أن الآذريين يشكلون أكثر من 30 مليون نسمة، وعلى الرغم من أنه لا توجد حتى الآن أدلة قوية تؤيد الفكرة القائلة بأن الأقلية الآذرية يتم إعدادها لمواجهة حكومة طهران الإسلامية، إلا أن صانعي السياسة في واشنطن قد أبدوا خلال الفترة الماضية اهتماما في هذا الاتجاه السياسي، ففى 9 أبريل الماضى تحدث ماحمودى شيهريجانى الناشط في مجال الحقوق الثقافية للأقلية الآذرية الإيرانية، وهو معارض سياسي ويقيم حاليا بالولايات المتحدة، أمام جمهور من صانعى القرار والدبلوماسيين بجامعة جون هوبكنز الأمريكية، حيث أكد على ذلك بما يفي ومتطلبات اللعب بتلك الورقة رغم أن الآذريين في إيران هو ليسوا بأقلية مضطهدة أو مسحوقة ليس لأنها نائلة حقوقها فقط بل لأن تعدادها ينفي عنها صفة الأقلية، علماً بأن مسؤوليين سياسيين وعسكريين وأمنيين كبار في النظام الإسلامي هم آذريون .


 


وعطفاً على السيناريو الأمريكي آنف الذكر، فإنني لا أتجاوز إذا قلت أن تلك السياسة النيوإمبريالية التي رسمتها الولايات المتحدة بعد أحداث سبتمبر قد لا تستطيع الدخول في مواءمات المعادلة الإقليمية والدولية الفِعلية إلى الحد الذي يمكّنها من تنفيذ تلك السياسة التصادمية المباشرة مع إيران على غرار ما فعلته في العراق، والنتائج المأساوية التي نجمت عن احتلال ذلك البلد وهو ما يُمكن تحديده بالآتي :


 


(1) رغم تلويح الإدارة الأمريكية لاحتمالات توجيه ضربة عسكرية مباغتة لإيران إلاّ أن القوة التي تتسم بها إيران، من الناحيتين العسكرية (منظومة صواريخ شهاب والبنية العقائدية الصلبة لقوات حرس الثورة الإسلامية الباسدران وقوات التعبئة الشعبية الإسلامية البسيج) والدبلوماسية التي تجلّت بقوة في محادثات الرباعي بطهران مع وزراء خارجية أوربا القديمة حول توقيع إيران على البروتوكول الإضافي للوكالة الدولية للطاقة الذرية، ستجعل واشنطن لأن تعمل وقتاً طويلا للحصول من طهران باللاحرب ما يمكنها أن تناله بالحرب، وهو ما يدركه الإيرانيون جيداً، مما يجعلهم يعملون على دحض الذرائع التي يمكن أن تفضي إلى عمل مسلح.


خصوصاً وأنهم ( أي الإيرانيون ) كانوا ( ولا زالوا ) يعتقدون بأن هدف الإدارة الأمريكية من الحرب ضد العراق (بالإضافة إلى كسر شوكة القوة العسكرية العراقية وإضعاف تأثير البُعد القومي والاستراتيجي للعراق تجاه القضية الفلسطينية بشكل خاص والقضايا العربية بشكل عام) محاصرة إيران جغرافياً وسياسياً الأمر الذي يجعلها أكثر قابلية للإبتزاز، والرغبة في إخضاع أسلحتها المتطورة وبرنامجها النووي المُتعاظم للمجهر أمريكي .


(2) كما أن الولايات المتحدة وبعد تصاعد خطر المقاومة العراقية ضدها في العراق باتت أحوج ما تكون لطهران للعب دور ما ( ولو محدود ) في الملف العراقي الشائك لما للإيرانيين من نفوذ كبير على قطاعات واسعة من منظمات وأحزاب عراقية فاعلة وخصوصاً في الجنوب، فرغم حجم المشاكل السياسية والتاريخية وتداعياتها على البلدين (العراق وإيران) إلاّ أن بينهما قواسم مشتركة لا يمكن للسياسة ولا الساسة أن يغيروا من حقيقتها وجلائها، فالعراق بالنسبة لإيران (والعكس صحيح) غوراً استراتيجياً رئيسياً تُبنى عليه مصالح الدولتين؛ وممراً مهمّا يُمكّنهما من العبور نحو الكثير من المواقع الإقليمية الحيوية في المنطقة وهو ما عبَّر عنه وزير الخارجية الإيراني كمال خرَّازي في مقابلة مهمّة أجرتها معه فصلية " إيران والعرب " في عددها الثالث – شتاء 2003 .


 كما أن واشنطن وإن لم ترتض لإيران أن تلعب دوراً ما في العراق فإنها على الأقل ستحاول تحييدها إزاء التطورات الحادثة فيه، فواشنطن تعلم جيدا حجم الحضور الإيراني في العراق الذي يمكن أن يعرقل مخططاتها وتطلعاتها النفطية فيه .


(3) إن ضرب إيران قد يشعل منطقة الشرق الأوسط المتوترة أصلا ويزجها في اللامتوقع, فلا يمكن تصور الرد العسكري الإيراني ( مع وجود قوة دفاعية مُوجعة لديها ) إزاء أي اعتداء يُشن عليها سواء من إسرائيل أو من الأساطيل الأمريكية المرابطة في الخليج والبحر الأبيض المتوسط وبحر العرب، والواقع أيضا أنه إذا ما أقدمت واشنطن على عدوان عسكري ضد إيران, فإنه وبالإضافة إلى أن طهران ستحتفظ بحق الرد المناسب لنفسها, فإنها قد تُشعل الجبهة الشمالية لإسرائيل عبر حزب الله, وهو ما تخشاه إسرائيل بشدة.


في النهاية فإن واشنطن تدرك جيداً أن إيران، بجيشها القوى ومصالحها المتينة والمتشابكة مع قوى عالمية وبالخصوص مع أوربا واليابان والنمور الآسيوية وعلاقاتها المتنامية مع محيطها الإقليمي ونظامها السياسي الديمقراطي ونخبتها السياسية والفكرية النشِطة ومجتمعها الذي يتطور باستمرار عبر حِراك طبيعي وخلاّق مهما كانت درجة حدته، لن تكون أبداً بطناً رخواً ولقمة سائغة في فم القوة الأمريكية .

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع