واصل سماحة الشيخ ابراهيم الصفا سلسلة محاضراته الرمضانية بحسينية الحاج أحمد بن خميس ، و ذلك في ليلة التاسع من شهر رمضان المبارك لعام 1443 هـ ، وتحت عنوان " خصائص القلب المعلّق " ، ابتدأ سماحته بمقطع من المناجاة الشعبانية لأمير المؤمنين " الهي هب لي كمال الانقطاع اليك وانر ابصار قلوبنا بضياء نظرها اليك حتى تخرق ابصار القلوب حجب النور فتصل الى معدن العظمة وتصير ارواحنا معلقة بعز قدسك " ، المتأمل في هذا المقطع الذي يمثل قلب المناجاة الشعبانية يبين لنا المسيرة الروحية للإنسان من حيث المبدأ و المنتهى ، تبدأ بالإنقطاع وتنتهي بالتعلّق ، فهنيئًا لمن حمل بين جنبيه قلبًا معلقًا ، لا زلنا نتحدث حول القلوب وحديثنا الليلة حول القلب المعلّق .

كل مسيرة في الحياة مادية أو معنوية ما لم يكن لها هدف تضيع ، فالأهداف المادية الدنيوية لابد ان تكون محددة والا بالجهود تضيع بدون قيمة ، كما أن المسيرة الروحية لله يجب أن نحدد هدفها ، الى اين نسير و الى أين نريد أن نصل ، أمير المؤمنين يبيّن البداية و الشروط و العقبات التي تعترض السالك ، ثم يحدد الهدف الذي ينبغي أن يصل اليه السالك و هو القلب المعلّق ، سلوك السالكين و ترويض المتروضين المشتغلين بترويض أنفسهم و ترويضها غايتهم أن يصلوا الى القلب المعلّق ، معدن العظمة هو الله ، هذا النحو من التعلّق يعتبر تعلّقا مقدسًا ، القلب المعلق يهيم في الله عز وجل وغاية كل سلوك عبادي روحي أن نصل الى التعلّق .

ما المراد من التعلّق الذي ندعو اليه ؟ التعلّق حالة من حالات القلب وهي من مؤشرات الفقر و الحاجة ، الكون ينقسم الى قسمين ، واجب الوجود وممكن الوجود ، نحن ممكن الوجوب أي يتساوى وجودنا وعدمنا ، ولا توجد ضرورة في وجودنا ، و لا يتغير الوجود برحيلنا ، أما واجب الوجود فهو الذي يحكم العقل بضرورة وجوده ، و لا يمكن أن يوجد الموجود الا ببركات الموجد ، ولذا الفقر و التعلّق معلول متعلّق بعلّته ، ولا يمكن أن يوجد المخلوق الا بالخالق ، والحاجة من صفات الممكنات و لا يوصف واجب الوجود بالتعلّق لأن كل تعلّق من دلائل الفقر و الحاجة ، من سورة الإنسان " هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1) " ، الفقير يحتاج الى الغني وكل انسان فقير لصانعه ، ومن دونه فقر محض ، من سورة فاطر " ۞ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)".

من سورة النساء " يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا (28) " و الضعيف متعلّق بالقوي ، هذه حقائق من التعلّق ، دائمًا الإنسان في المناجاة يقول " مولاي يا مولاي أنت العظيم وأنا الحقير، وهل يرحم الحقير إلا العظيم مولاي يا مولاي أنت القوي وأنا الضعيف وهل يرحم الضعيف إلا القوي، مولاي يا مولاي أنت الغني وأنا الفقير، وهل يرحم الفقير إلا الغني، مولاي يا مولاي أنت المعطي وأنا السائل، وهل يرحم السائل إلا المعطي، مولاي يا مولاي أنت الحي وأنا الميت وهل يرحم الميت إلا الحي، مولاي يا مولاي أنت الباقي وأنا الفاني وهل يرحم الفاني إلا الباقي. " كلها مقاطع نجدها من مظاهر الفقر و التعلّق ، إرادتك فرع إرادة الله ، اذن إرادتنا فقيرة متعلّقة بإرادة الله و هذا من التعلّق أيضًا . وكل يوم نقر بتعلّقنا بالله وفي كل فريضة " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) " ، ولذا الإنسان يقر بالتعلق وهو حقيقة الفقر و الحاجة لله عز وجل .

المتأمل في القرآن يجد أن التعلّق على أربعة أنحاء ، أولا : التعلّق التكويني وهو التعلّق الوجودي ، أي أن كل موجود في الكون فقير الى موجده ، و أن كل مخلوق محتاج الى خالقه ، هذا التعلّق التكويني خارج عن إرادتنا لأنه خاضع لإرادة الله ، هذا التعلّق يقتضي الإيمان بوجود الله تعالى ، فالملحد لا يؤمن بالتعلّق . نجد أن الله أوجد هداية تشريعية و هناك إرادة تكوينية وهي القهرية الجبرية ، الله عز وجل خضّع الوجود لفقر يعبر عنه بالتعلق الوجودي التكويني ، التعلّق الثاني التي أشارت لها النصوص هو التعلّق البقائي ، أنت مفتقر لله وجودًا ومفتقر اليه بقاءً ، " بحول الله أقوم و أقعد " من دون حول و تعلّق لا قيام و لا قعود ، و هذا اقرار من العبد بالتعلّق العبادي ، وقد ذُكر القيام و القعود للغلبة و ليس على نحو الحصر ، الأكل و الشرب ، النوم و اليقظة ، و جميع أحوال الإتسان خاضعة لحوله و قوته ، ولو استغنى عن الله لم يكن له وجود كوجود المصباح بلا كهرباء ، له حياة ما دام متصلا بالله ، ومتى ما انقطع ليس له وجود .

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا خرجت من منزلك فقل: " بسم الله توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أسألك خير ما خرجت له وأعوذ بك من شر ما خرجت له اللهم أوسع علي من فضلك وأتمم علي نعمتك واستعملني في طاعتك واجعل رغبتي فيما عندك وتوفني على ملتك وملة رسولك ، الانسان متعلق بربه في الوجود ومتعلق به في البقاء ، التعلق الثالث تعلق تشريعي ، أنت عبد محكوم بأحكام و تشريعات ، فالأمر راجع لله ، تفعل او لا ، و الشريعة حاكمة و اتباعها متعلقون لها ، المؤمن يتعلق بحكم الله و شرعه ، تأكل أو لا ، تشرب أو لا ، تلبسين الحجاب أو لا . فويل لمن يقطع التعلّق الشرعي فهو فاسق ومن يقطع التعلّق التكوني فهو كافرٌ . التعلق الشرعي ضرورة في حياة الإنسان ، من سورة التوبة " وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ، و من سورة الأعراف " ۞ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)" النتق هو القطع ، أي قطع الله قطعة من الجبل على رأس بني اسرائيل لما ترددوا في التعلّق التشريعي .