استهلّ سماحة الشيخ ابراهيم الصفا سلسلة محاضراته الرمضانية بحسينية الحاج أحمد بن خميس ، و ذلك في ليلة الحادي من شهر رمضان المبارك لعام 1443 هـ ، وتحت عنوان " القلب و السير الى الله " ابتدأ بمقطع من خطبة الرسول الأكرم في استقبال شهر رمضان " فَاسْأَلُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ وَ قُلُوبٍ طَاهِرَةٍ أَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِصِيَامِهِ وَ تِلَاوَةِ كِتَابِهِ " ، المتأمل في كتاب الله تبارك وتعالى و في آياته التي تحدثت حول مسيرة الإنسان نحو الله ، يجد بعض الآيات قد تحدثت عن مفهوم الجهاد و المجاهدة ، فقسمت الجهاد الى قسمين ، جهاد حسي و جهاد باطني معنوي يمثل حركة السير نحو الله ، آيات أخرى تحدثت حول الكدح .
القرآن الكريم يؤكد أن الإنسان مهاجر حسًا و معنًى ، هجرته الداخلية الحسية منسجمة مع عالم الملك ، و هجرته المعنوية منسجمة مع عالم الملكوت ، يتوجب علينا أن نعلم أنّ الإنسان في سفر قهري و آخر اختياري ، العودة الى الله قهرية تكون في الموت و مقدماته ، الحركة الجسمانية من القوة الى الضعف لا خيار لنا فيها ، المؤمن مقهور في وجوده ، كما ورد في مقطع من دعاء الصباح : " يا من توحد بالعز والبقاء، وقهر عباده بالموت والفناء " ، لا يملك أحد إرادة ليقي نفسه من الموت و الفناء .
المؤمن العاقل الذي يعلم بحاجته الى الله فيعود باختياره قبل أن يعود مقهورًا الى الله ، من سورة فاطر " يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) " ، من دعاء أبي حمزة " سَيِّدِي أَنا الصَّغِيرُ الَّذِي رَبَيْتَهُ وَأَنا الجاهِلُ الَّذِي عَلَّمْتُهُ وَأَنا الضَّالُّ الَّذِي هَدَيْتَهُ" . فقر لا يخرج منه المؤمن الا بالله و العودة اليه ، ولهذا مسيرة الإنسان نحو الله تتجلى في شهر رمضان ، وهي محطة يتأهب المؤمنون فيها بأخذ الطاقة المعنوية عبر الألطاف الإلهية : " أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاءكم فيه مستجاب " ، كل هذه الألطاف الربانية مقدمات للعودة ، ومن لم يعد " فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللهِ " ، السفر لابد أن يتجلى في هذا الشهر ، لكل سنة رأس ، فرأس السنة السلوكية عند أهل المعرفة هو شهر رمضان وهي بداية العروج ، يتزودون بالطاقة المعنوية و الروحية و يتعينون بهذا الشهر لسائر شهور السنة .
في خطوات العودة الى الله ، هناك برامج و مناهج علمية متعددة ، أهل السلوك من العرفاء و الصوفية ومن غيرهم لكل منهجه ، نريد الوقوف فيما ورد في كتاب الله و سنته ، حيث تجلت خطوات عملية يعود الإنسان من خلالها الى ساحة القرب الإلهي فيحظى بعناية الله و ألطافه ، الخطوة الأولى هي الإعتقاد بوجود الغيب ، الوجود له نشاتان ، نشأة مادية ملكية ، و نشأة معنوية غيبية وهو ما يطلق عليه بعالم الشهادة و الغيب . المنهج المادي في الرؤية الغربية و الفلسفية المادية اليوم لا يمكن بها الوصول الى الله .
الشرط الثاني : تحديد الهدف ، فما هو هدف مسيرك نحو الله ؟ الصوم وسيلة موصلة الى الله ، من سورة البقرة " أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) " التقوى مستوى من المعرفة بالله عز وجل . يتفاوت الناس في مراتبهم عند الله بالتقوى و التقوى وليدة المعرفة لأنها من الوقاية و هي الخوف والحذر ، ولا خوف ولا حذر الا بالمعرفة ، من دعاء الصباح " مَنْ ذا يَعْرِفُ قَدْرَكَ فَلا يَخافُكَ، وَمَن ذا يَعْلَمُ ما اَنْتَ فَلا يَهابُكَ " الهيبة و الخوف و الشوق و اللهفة الى الذات الإلهية فرع من المعرفة ، ومن هنا يتوجب على الإنسان أن يتعرف على الله عز و جل لينطلق نحوه ، فالصلاة والصيام و العبادة بمختلف أشكالها ما هي الا مطايا للتقرب الى الله .
السير الروحي له هدف والقرآن بين ذلك الهدف ، من سورة الإنشقاق " يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) " وهذا السير الروحي بيّن حقيقته علي ( ع ) عبر المناجاة الشعبانية " « اِلـهي هَبْ لي كَمالَ الانْقِطاعِ اِلَيْكَ ، وَاَنِرْ اَبْصارَ قُلُوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها اِلَيْكَ ، حَتّى تَخْرِقَ اَبْصارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ اِلى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ ، وَتَصيرَ اَرْواحُنا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ " معدن الله هي الذات الإلهية ، المصيبة الكبرى اذا ما انحرفت مسيرة الإنسان عن الله ، فذهب الخلوص عن قلبه ، فصارت عبادته رياءً و صيامه عُجب ، و أعماله لغير الله ، فأضحى مصداقًا لقوله تعالى ، من سورة الكهف " قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا " ، صلاة جوفاء و صيام لا قيمة له ، وخمس لا وزن له عند الله عز وجل لخلل في القصود ، تجرّد من الإنية و الغيرية ترقى ، فلا تعمل للناس رياء و لا لذاتك عُجبًا ، على المؤمن أن يكون متيقظًا لقطاع الطرق في الحياة .
الشرط الثالث : لابد من تحديد أداة السير نحو الله ، فتح لنا الله أبوابًا في مسيرة الإنسان نحو الله و حدد لنا طرقا ، فليس كل الطرق توصلنا الى الله ، نحتاج الى العبادة ، و نحتاج الى القلب لأنه الوسيلة للقرب من الله ، لا يمكن أن ندرك حضوره المقدس الا بالقلوب . هناك شروط للمسير نحو الله وله أدوات والا ابتلينا بالتيه ، و التيه مسير ولا يزيد بصاحبه الا بعدًا ، من سورة المائدة " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) " ، أول الشرائط التقوى ، ومعرفة المعبود تعالى ثم التحلي بالصفات اللائقة لمعرفته . و الا يجدك الله حيث نهاك و لا يفقدك حيث أمرك ، برمجة الإنسان من الخارج أعمالًا و سلوكَا ، و شاء الله لهذا الإنسان ألا يتصل بالله الا بواسطة مبصرة وهم أولياء الله و أنبيائه لأنهم هم الهداة ، من سورة الأنبياء " وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ۖ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)" ، الإمام هو الوسيلة ، فيحتاج المؤمن الى معرفة يقينية بإمام زمانه ليكون هو الدليل الموصل بينه و بين الله تعالى .
التعليقات (0)