يعيش المشهد السياسي الإيراني حِراكاً دراماتيكياً قوياً منذ ما يقرب الشهر وذلك استعداداً للانتخابات البرلمانية السابعة التي ستُجرى في فبراير / شباط القادم وسط اهتمام غير مسبوق من جميع الأطياف السياسية نظراً لما سيُمثله مخاضها العملي من تشكيلة برلمانية جديدة ستُلقِي بظلالها بقوة على المستقبل السياسي (المتوسط المدى على الأقل) لنظام الجمهورية الإسلامية .
وفي غمرة تلك الاستعدادات والمداولات لبعض القوى الفاعِلة تبقى حقيقة بائنة بجلاء لأي متابع عن كَثَب للشأن الإيراني .. وهي أن جبهة الثاني من خرداد الإصلاحية ( التي برزت بقوة بعد وصول الرئيس خاتمي إلى الرئاسة عام 1997 ) تعيش حالة من اللاتوافق في خياراتها الانتخابية وشخوصها، وفتور فاقع في نسيج علاقاتها البينية، خصوصاً وأن هذه الجبهة ( التي تضم أكثر من 17 تنظيماً يُشكلون فسيفساء التيار الإصلاحي في أغلبه ) لا يجمعها سوى عدائها السحيق للتيار المحافظ وبعضٍ من السياسات المُتشابكة والمُعقدة، فهي حين تندلع معركة التنازلات والانحناءات فيما بينها تضطر في أحيان كثيرة إلى أن ترجع كل منها إلى قواعدها السياسية والفكرية والاجتماعية وحتى الفقهية التي تنهل منها للإحتكام ووضع نقطة النهاية لقرارها خصوصاً وأن مفهوم الإصلاح فيما بينها لا يزال عائماً وبدون ملامح معروفة يُمكن أن تتوافق عليها كل الأطياف المتحالفة فمنهم من يراه سيادة القانون والتنمية السياسية مع الحفاظ على الثوابت والأصول (روحانيون مبارز) ومنهم من يعتبره كسراً لأصنام الثورة وثوابتها عن طريق التطبيع مع الولايات المتحدة والاستقواء بها والتمهيد لعلمنة الدولة (جبهة المشاركة) وآخرين يرونه تفجيراً للقومية الإيرانية في المحيط الإقليمي والتركيز على التنمية الإقتصادية (كوادر البناء) ، فلا يمكننا ( مثلاً ) أن نتصوّر أن مجمع علماء الدين المناضلين (روحانيون مبارز) الذي يُؤمن بمنهج التصادم مع النظام الدولي بل يعتبره قائماً على الإجحاف والهيمنة أن يتماهى مع أطروحات جبهة المشاركة التي ترى عكس ذلك تماماً ، أو نتصوّر انسجاماً ما بين كوادر البناء وكلاً من روحانيون وجبهة المشاركة، فلو رجعنا إلى التاريخ القريب جداً لرأينا حوادث عِدّة تُؤكد على ما نقول .. فعندما اشتدّ الخلاف بين عبد الله نوري وزير الداخلية السابق ( وهو من تيار روحانيون ) وبين القضاء ومجاميع حوزوية ومحافظة تبرأت منه الكثير من القوى الإصلاحية أبرزها التيار الذي ينتمي إليه وكذا كوادر البناء وبعض التنظيمات الإصلاحية الأخرى، كما أن الدكتور عطاء الله مهاجراني وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي السابق قد دخل في سجال مفتوح ومماحكة شديدة مع قيادات جبهة المشاركة مُسمياً إيّاها بجبهة " الممانعة " عندما شنّت الأخيرة هجوماً عنيفاً في صفحات يوميتها المتطرفة صبح أمروز على هاشمي رفسنجاني ( مُنظّر تيار كوادر البناء ) مُتهمةً عهده بـ " الكارثة الاقتصادية " بل زادت على ذلك بربط وزير أمن حكومته المنصرفة علي فلاحيان بالاغتيالات التي طالت ستة من مثقفي التيار الليبرالي في العام 1998 ، كما أن عضو تكتل روحانيون الشيخ قدرة علي خاني قد وصَف في صحيفة آفتاب يزد مؤخراً بهزاد نبوي (وهو من ألمع قياديي جبهة المشاركة) بأنه أخطر من حركة الحرية، وأن نهجه وحركاته لا تختلف عمّن يعمل لإسقاط النظام "
وفي تصريح آخر لأحد النواب والذي هو أيضاً عضو في الثاني من خرداد وصف فيه السلوك السياسي لمحمد رضا خاتمي زعيم جبهة المشاركة بأنه " أدى إلى طرد حتى الذين كانوا قبل الثاني من خرداد إصلاحيين من الميدان السياسي وأن استبداده أدى إلى ضرب الإصلاحات من الجذور " .
كما تجلّى الخلاف الإصلاحي الإصلاحي أكثر عندما حدث الانشقاق الكبير بمعسكرهم في الانتخابات البلدية خلال شهر فبراير الماضي والتي قدّم فيها 18 حزبا إصلاحيا ثلاث قوائم متنافسة للمرشحين، في حين أنهم خاضوا انتخابات عام 1999 بقائمة واحدة وهو ما أدّى إلى هزيمتهم فيها .
والغريب أن صحيفة سياست روز تحدثت عن نتائج استطلاع رأي جرى مؤخراً في إيران أظهر انحساراً شديداً لشعبية عدد من فصائل تكتّل الثاني من خرداد أهمها جبهة المشاركة التي يرأسها محمد رضا خاتمي النائب الثاني لرئيس البرلمان حيث حصلت على 9 % وحزب همبستكي ( التضامن ) 3 % ومنظمة مجاهدي الثورة الإسلامية 2 % بينما حصل مجمع علماء الدين المناضلين ( روحانيون ) على 17 % وهي نسبة مفاجئة ستُعيد بلا أدنى شك ترتيب الأوراق من جديد على عموم الساحة السياسية الإيرانية، خصوصاً وأن هناك تنسيقاً قائماً بينها وبين رابطة علماء الدين المناضلين ( روحانيت ) وهي أبرز تنظيم ديني في تيار اليمين المحافظ الأكثر شهرة والأوسع شعبية والعريض في انتماءات رجاله من الرؤى والتوجهات الفكرية والسياسية وذلك بُغية إيجاد آلية مواجهة لسياسات وتطلعات التيار الإصلاحي المتطرف والمتدثر بعباءة الرئيس خاتمي والساعي إلى تغيير منظومة القيم السياسية والاجتماعية والدينية للثورة وللمجتمع الإيراني بصورة انقلابية .
كما أن جبهة الثاني من خرداد لم تتوصل بعد ( ورغم اقتراب ساعة الصفر ) إلى صيغة ائتلافية توافقية ، فلا زالت جبهة المشاركة تدرس وضعها التنظيمي وهل ستتحالف مع قوى إصلاحية بعينها أم لا، بل ذهب نائب رئيسها بهزاد نبوي أكثر من ذلك عندما صرّح لصحيفة همبستكي مؤخراً بأنه " من غير الممكن التكهن منذ الآن بمشاركة الإصلاحيين أو مقاطعتهم لانتخابات المجلس السابع " إلاّ أنه أردف وانتقد بعض الإصلاحيين الذين يُروجون لمقاطعة الانتخابات قائلاً " إن مقاطعة الإصلاحيين للانتخابات تعني الاعتراف بهزيمة الحركة الإصلاحية في إطار القانون " .
على الجانب الآخر من الصورة تبقى صفوف اليمين المحافظ متماسكة إلى حد ما فهي رغم وجود رؤى متباينة بين متشدديها ( آية الله محمد تقي مصباح يزدي ) ومعتدليها ( البرفوسور محمد جواد لاريجاني ) فهي تظل متوافقة على الأفكار والخيارات السياسية ولم تَرْشَح إلى الآن أية خلافات فيما بينها تنبئ بانشقاق قد يصيبها في مقتل .
فاليمين ومنذ أسابيع خَلَت استطاع أن يناقش ويُثبّت تركيبة ودراسة الأشخاص الذين يريدهم ليخوض بهم الإنتخابات بعشر فئات ممن تمارس فعالياتها تحت عنوان المجلس التنسيقي لقوى الثورة قدمت كل منها خلال الأسابيع الماضية أسماء 45 مرشحاً حيث من المقرر أن يتم اختيار 25 منهم كمرشحين عن الجناح اليميني في طهران والخمسة الآخرين في القائمة عن رابطة رجال الدين المجاهدين ( روحانيت ) والتي استعرضت في جلساتها موضوع ترشيح ناطق نوري، كما عُلِمَ بأن قائمتها المُعَدَّة لعدد من الدوائر المهمّة قد ضمّت كل من محمد رضا باهنر أمين عام الرابطة الإسلامية للمهندسين عن مدينة كرمان ومرتضى نبوي مدير صحيفة رسالت عن قزوين وكاظم أنبارلويي رئيس تحرير صحيفة رسالت وعضو جمعية المؤتلفة الإسلامية عن بوئين زهرا وآرج وعلي زادسر عضو روحانيت عن جيرفت وحميد رضا ترقي عضو جمعية المؤتلفة الإسلامية ومحمد رضا فاكر عضو رابطة مدرسي الحوزة العلمية وعلي رضا أفشار رئيس مؤسسة حفظ قيم الحرب عن مدينة مشهد المقدسة .
كما استقال عدد من ضباط الصف الثاني والثالث في قوات حرس الثـورة الإسلامية ( الباسدران ) ممن يتماهون مع اليمين المحافظ آيدولوجياً ويتناغمون مع أطروحاته السياسية والدينية وتركوا مناصبهم العسكرية ليتمكنوا ( قانونياً ) من الترشّح للإنتخابات التشريعية القادمة مُمثلين عن التيار المحافظ في عدد من الدوائر، كما استقال محمد رضا عباسي فرد وهو عضو في مجلس صيانة الدستور للغرض نفسه .
وأمام ذلك التوصيف للخريطة الحزبية ومكنوناتها في المشهد السياسي الإيراني يمكن أن نتوقع ما ستُسفِر عنه العملية الإنتخابية المُقبلة كإفضاء طبيعي وفقاً للسيناريوهات التالية :
(1) أن يكتسح الثاني من خرداد من جديد ( رغم حالة اللاتوافق التي يعيشها ) مقاعد المجلس النيابي الـ 290 ويقضي على ما تبقى لليمين المحافظ من مقاعد في المجلس مُستقوياً مرة أخرى بأصوات الناخبين من الشباب الإيراني وهم كُثُر ( 70 % فتوة ) والذين يتوقون إلى إحداث تغييرات نوعية في نمطية الحياة الاقتصادية والشخصية، وبالتالي يتخلّص من محاولات المحافظين المتكررة لعرقلة إقرار عدد من القرارات المُقدمة من الأغلبية الإصلاحية والتي تحتاج إلى تصويت حاسم، أو محاولاته لاستصدار استجوابات متلاحقة لوزراء في حكومة الرئيس خاتمي، وبالتالي يتفرّغ فقط لمسألة الإستصواب التي يُمارسها مجلس صيانة الدستور ( وفقاً للمادة 91 من الدستور ) لقرارات مجلس الشورى الإسلامي .
(2) أن يحصل التيار المحافظ على عدد أكبر من المقاعد بالمقارنة مع ما لديه الآن ( 60 مقعد حالياً ) مستفيداً من تجربة المجالس البلدية التي جرت في شهر فبراير من العام الجاري والتي استطاع أن يُحقق فيها فوزاً نسبياً في بعض الدوائر وكاسحاً في دوائر أخرى كطهران ( 14 مقعد من أصل 15 ) ويزد ( 6 مقاعد من أصل 9 ) ومشهد وأصفهان وشيراز وقم المقدسة وفي الأرياف، وبالتالي تُصبح الطريق له سالكةً لتجميع قواه استعداداً لانتخابات رئاسة الجمهورية التاسعة عام 2005 ليعيد سيطرته تدريجياً على السلطتين التنفيذية والتقنينية .
(3) أن يتراجع التياران الإصلاحي والمحافظ لصالح التيار الثالث المولود تواً من عُقلاء القوم من التيارَين التقليديَن والذي يضم في صفوفه العديد من الشخصيات المحوريّة والمُهمة في الساحة السياسية الإيرانية كحسين مرعشي وفائزة رفسنجاني ( كوادر البناء ) وشخصيات مستقلة كطه هاشمي رئيس تحرير صحيفة إنتخاب وممثل المرشد في الحوزة العلمية في مدينة قم ومحسن رضائي الأمين العام لمجمع تشخيص مصلحة النظام الإسلامي وقائد الحرس الثوري السابق، وبعض شخصيات روحانيون، وهو الأمر الذي سيترتب عليه ( إن حصل فعلاً ) ظهور أوراق واستحقاقات جديدة على الساحة السياسية الإيرانية يمكن أن تعيد التوازنات وتُقلّم أظافر المتطرفين من الجانبين، وهو ما يدعمه ( على ما يبدو ) مرشد الثورة الإسلامية آية الله السيد علي الخامنئي لدرء خطر أدواء اليسار واليمين .
التعليقات (0)