واصل سماحة الشيخ ابراهيم الصفا سلسلة محاضراته الرمضانية بحسينية الحاج أحمد بن خميس ، و ذلك في ليلة الرابع عشر من شهر رمضان المبارك لعام 1442 هـ ، وتحت عنوان " خطوات -حدد دربك " ، بدأ سماحته بالسورة المباركة الفاتحة " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) " ، القرآن الكريم عندما يتحدث حول مسيرة العبد نحو الله عز وجل ، فانه يشير الى جنبتين مهمتين ، أما الأولى بين أن الطريق لله يُعتبر من أصعب الطرق سلوكًا لكثرة الأعداء فيه منها النفس الأمارة و الشيطان و الهوى و الغرائز وفتون الدنيا وما فيها ، الكدح يعبر عن المشقة والعناء الا ان الميزة الثانية التي أشارت اليها النصوص في هذا الكدح أن هذا الكدح هو أفضل كدح في الوجود و ختامه السعادة الأبدية و مشمول بالألطاف الإلهية ، جاء عن الله في الحديث القدسي " من طلبني وجدني ، ومن وجدني عرفني ،ومن عرفني أحبّني ومن أحبني عشقني ، ومن عشقني عشقته ، ومن عشقته قتلته ، ومن قتلته فعليّ ديته ، ومن عليّ ديته فأنا ديته " ، في هذه الرواية الأسرار الكثيرة ، بمجرد أن تكون طالبًا لله يمدك الله بالعون ، ومن هنا خطوات السير لله التي تحدثنا حولها في هذه الليال الثلاثة الماضية ، الليلة نقف مع خطوة من مخطوات السير وهي من أهم الخطوات وهي حدد دربك
الدرب هو ما كان بين نقطتين ، حتى قيل من سار على الدرب وصل ، مسيرة العبد لله تحتاج الى طريق موصل ، و على المؤمن الذي يريد أن يصل الى مراتب القرب لله ، أن يتساءل ما هو الطريق الموصل لله ؟ يقول الإمام علي ( ع ) " رحم الله امرأ أعد لنفسه، واستعد لرمسه.. وعلم من أين، وفي أين، وإلى أين " : عرف المبدأ أي عرف الله و التوحيد ، في أين؟ هذا هو محور كلامنا ، أما الى أين فانه المعاد و الآخرة ، لا بأس أن نقف مع السلوك الخطير الذي يبعدنا عن الله الذي ذكره القرآن ، أول تلك الطرق طريق الهوى فحذّر من اتباعه و السير على أثره ، و النزعات الذاتية و الشهوات الباطنية و الغرائز النفسانية ، من سورة المؤمنون " وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ" كل شيء يفسد بسبب اتباع الهوى ولذلك جاء التحذير من الله تعالى في سورة ص " يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) " اتباع الأهواء الذاتية مبعد عن الله ، كثير من الناس يعمل بما ينسجم مع رغباته حتى في الدين و العقائد ، بلعم بن باعوراء كان له الإسم الأعظم و كان مستجاب الدعوة لما له من منزلة عظيمة عند الله ، و قد عبر عنه القرآن في سورة الأعراف " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) " الإنسلاخ اشارة أن الجزء لا يتجزأ منها ، أي أن الآيات و البراهين عميقة في بلعم ، و انفكاكه عنها عُبّر عنه بالسلخ ، أي انه كان على جادة الإستقامة و الصلاح ، و لكن السبب في انحرافه أنه اتبع الهوى ، من سورة الأعراف " وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)" فأصبح بلعم غاوي ويغوي الآخرين .
الطريق الثاني الذي حُذرنا منه هو طريق الشيطان ، ان بعض البشر وبسبب اتباع خطوات الشيطان أصبحوا شياطين ، و يذكرهم القرآن بشياطين الجن و الإنس ، الشيطنة هو صدور الشرّ من الإنسان فاذا تحوّل الشر الى ملكة راسخة عند الإنسان صار شيطان سواءً كان انسيًا أم جنيًا ، فاتباع خطوات الشيطان مآلها الى الضلال ، وقد اتبع الشيطان اناس كثر ، البعض يتبع الشيطان سرًا من حيث لا يعلم " الذي يوسوس في صدور الناس " و يعامل الوسوسة معاملة الإلهام و يرتب الأثر عليه ، هناك من يعبد الشيطان و يسجد و يركع له علنًا ، فانظر الى عملهم و انحطاطهم كيف يكون ، الله يحذر من الشيطان ، من سورة النور " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) " ، يأتي الشيطان للانسان من حيث ما يُحب ولا يأتي بما يضد ، ويفقه طريق الوصول اليه ، هناك عداوة ضاربة في عمق الوجود الإنساني بين الإنسان والشيطان منذ الوجود ، الطريق الثالث : " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " ، انهم اليهود و النصارى ، لا نريد طريقهم لأن هذه شريعة مُسخت و انتهت ، و جاءت شريعة الإسلام و أنهتها فلم تعد الطريق الذي يوصل لله تعالى ، وفي اليهود عبر عنهم القرأن " قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ ۚ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) " وقد قال الامام الصادق ( ع ) في تفسيرها أنها نزلت في اليهود ، و عن النصارى في سورة المائدة " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) " ، فتكرر ذكر الضلال ثلاث مرات ، ولهذا يوجد ضلال خطير على المستوى المسيحي من حيث الإعتقاد ، الطريق الموصل لله هو الصراط وليس السبل التي تحرف وسيلة الإنسان ، ولذلك حذرنا من اتباع السبل .
بعد معرفتنا الطرق الخطرة ، سؤالنا هذه الليلة ما هو الطريق للوصول الى الله ، تختصر لنا سورة الفاتحة هذا الطريق " " اياك نعبد " الصراط الموصل لله عز وجل هو الصراط المستقيم ، و أقصر طريق بين نقطتين هو الخط المستقيم . السالكون لله عز وجل لابد ان يتسائلوا ماهو الطريق الموصل لله عز وجل ، فما المقصود من الصراط ؟ الرأي الأول ، عن النبي أن الصراط هو الشارع الشريف باحكامه و أوامره ، أي دين الإسلام ببعديه العقدي و العبادي الذي يوصل لله عز وجل ، الرأي الثاني أن المراد من الصراط المستقيم هو طريق المؤمنين الذي لا افراط فيه ولا تفريط ، لا غلو فيه و لا تقصير . الصراط المستقيم هو طريق المؤمنين الذي لا تقصير فيه ولا غلو ، سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الصراط، فقال: هو الطريق إلى معرفة الله عز وجل، وهما صراطان: صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، فأما الصراط الذي في الدنيا فهو الأمام المفروض الطاعة، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مر على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه عن الصراط في الآخرة فتردى في نار جهنم ، أما الرأي الثالث : أن الصراط المستقيم هو علي بن أبي طالب ، ففي الرواية عنه ( ع ) : " أنا صراط الله المستقيم، وعروته الوثقى التي لا انفصام لها" ، رواية أخرى عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: " ليس بين الله وبين حجته حجاب فلا لله دون حجته ستر، نحن أبواب الله، ونحن الصراط المستقيم، ونحن عيبة علمه، ونحن تراجمة وحيه، ونحن أركان توحيده، ونحن موضع سره " ، لا يوجد تنافي بين الروايتين ، فالإمام علي لا يشير الى نفسه فقط ، انما يشير الى عنوانه كامام ، وهذه الإمامة تنتقل الى الحسن و الحسين الى الإمام المهدي ( عج ) و هو صراطنا المستقيم .التمسك بالقران لازم أن تتمسك بأهل البيت و التمسك بأهل البيت لازم أن تتمسك بالقرآن ، الصراط الموصل الى لله ان قلنا القرآن فهو القرآن بأحكامه و حدوده ، و ان قلنا المعصوم فانه ترجمان لأحكام الله . السير لله يحتاج الى صراط مستقيم
الروايات و النصوص تشترط خصالًا للسالكين لله عز وجل و حالات ، أول تلك الحالات الإستقامة ، من سورة فصلت " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30)" لا يمكن أن يصل الإنسان لله من دون استقامة ، ولا يمكن للعبد أن يرتقي في مراتب القرب عند الله من دون استقامة ، لأن الإستقامة تساوي الثبات ، و عكس الإستقامة أن تبني و تهدم ، و أن تخطو للأمام و الخلف ، أن نتوب و نعصي ، نعمل الخير و الشر ، والله أراد أن يعلمنا ويدربنا " وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ ۚ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)"، فبعد ثلاثون يومًا من العبادة ، لا ينبغي لنا أن نكون مثل ريطة بن عمر فنهدم آثار الصوم و الطاعة و الإستماع و أعمال الخير ، الإستقامة من الأمور المطلوبة للسير المستقيم على الصراط , الصفة الثانية هي الإخلاص فلا سلوك من دون الإخلاص ، لأن روح الإخلاص أن لا ترى في عبادتك الا الله ، وسورة الفاتحة تختزل القرآن ، الصراط المستقيم يمثل البرنامج العملي و السلوكي للوصول لله ، أما شرائطه " اياك نعبد " ألا تعبد الا الله ، " واياك نستعين " ان كنت ممن يعرف الله ستعبده ، فالمعرفة ثم العبادة ثم الإستعانة ثم الذهاب للصراط المستقيم . و الحالة الثالثة الضرورية هي اليقظة ، فلا ينبغي أن تشغلنا الدنيا ، الشرط الرابع عدم الركون الى الظالم و لا الى الإنحراف ، من سورة هود " وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (113) " وعبر عن " لا تركنوا " بالميل القلبي و قال بعضهم اظهار الرضا بقبول الظلم ، وقال بعضهم "تركنوا" أي تتعاونوا مع الظالم ، و البعض هو المودة و الطالعة للظلمة ، فينحرف الإنسان عن طريق الله ، السالكون لله هيهات أن يكونوا أعوانًا للظالمين .
التعليقات (0)