واصل سماحة الشيخ ابراهيم الصفا سلسلة محاضراته الرمضانية بحسينية الحاج أحمد بن خميس ، و ذلك في ليلة الثامن من شهر رمضان المبارك لعام 1442 هـ ، وتحت عنوان " المرجعية والوصايا الأخلاقية " ، ابتدأ سماحته بالآية المباركة من سورة الجمعة " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)"، القرآن الكريم في آيات متعددة يبين أن من أهم وظائف الأنبياء التي ينهضون بها هو الإصلاح الروحي في المجتمع ، و الذي عبر عنه في سياق هذه الآية بالتزكية ، الإصلاح الأخلاقي و الروحي يعتبر من أهم الوظائف التي نهض بها الأنبياء ، لأن الله عز وجل أراد اصلاح الدنيا بما فيها ، و لأن مصدر الفساد في الدنيا هو الإنسان ، فجنّد الله الأنبياء و الأوصياء ، كل ذلك من أجل اصلاح هذا الإنسان ، متى ما صلحت أخلاق الإنسان ، صلحت الأمة برمتها ، وانطلاقًا من هذه المقدمة فان العلماء ورثة الأنبياء كما ذكرنا سابقًا ، الوراثة هنا ليست وراثة مالية بل وراثة وظيفية و سلوكية ، تحدثنا حول موقف المرجعية من الإصلاح و الوصايا الثمان التي صدرت من سماحة السيد علي السيستاني حفظه الله ، حيث أجاب على مسائل قدمها الشباب ، والليلة نتعرّض الى النصائح الخلقية ، حيث تحدثنا بالأمس عن الوصايا العقدية .
في الوصايا الصادرة من سماحته للمؤمنين عامة و للشباب خاصة ، نجد أن سماحته يؤكد على التحلي بحسن الخلق " الاتّصاف بحسن الخلق، فإنّه جامع للفضائل الكثيرة " ، وقد ذكرها السيد لأسباب عديدة ، السبب الأول : البناء الأخلاقي هو مشروع الأنبياء ، لا شك أن المرجعية تتصدى لهذا المشروع و تسعى لإكماله و استمراره ، التزكية مقدمة على التعليم ، لأن التزكية توجد أرضًا خصبة لتوجد علمًا نافعًا ، لأن العلم بدون تزكية قد يكون خطيرًا على المجتمع لأنه لا يصلح نفسه ، السبب الثاني لأن حقيقة الدين لا تتوافر الا بالخلق الحسن ، الدين يمرّ برتبتين ، الحالة الداخلية ( قول الشهادتين ) و الحالة السلوكية وهي ترجمة الإيمان في الخارج ، هذا السلوك الحسن المنسجم مع الدين هو الذي يعزز حالة الإيمان ، فالإنسان يمر بأربعة مراحل " وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) " . المرحلة الأولى هي مرحلة الخسران و التجرّد من العقيدة و السلوك ، الثانية الأفضل حالًا وهي مرحلة الإيمان من دون سلوك ، " آمنوا " إيمان انعقد عليه القلب دون أن يعزز ، المرتبة الثالثة : العمل و أن تجتمع العقيدة مع السلوك ، و المرتبة الرابعة هي الأعلى فهي تتعدى اصلاح النفس الى اصلاح المجتمع . الإنسان الذي يريد ان يُجسد التدين الحقيقي ينبغي أن يكون ليس عقديًا فقط ، بل لابد ان يترجم الى سلوك . ان الدعاوى الزائفة بايمان الشخص وسلوكه على خلاف الدين فهذا يكشف عن عدم تدينه . جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله من بين يديه فقال: " يا رسول الله ما الدين؟ فقال: حسن الخلق ثم أتاه عن يمينه فقال: ما الدين؟ فقال: حسن الخلق ثم أتاه من قبل شماله فقال: ما الدين؟ فقال حسن الخلق ثم أتاه من ورائه فقال:ما الدين؟ فالتفت إليه وقال أما تفقه الدين؟ هو أن لا تغضب " ، فالمرجعية تريد بذلك التأكيد أن الإيمان لا يتكامل الا بالتحلي بالسجايا الخلقية .
السبب الثالث : أن علم الأخلاق وضرورة التحلي به يعتبر من الواجبات في الدين : العلوم أصناف ، علوم واجبة وعلوم مستحبة وهناك علوم محرمة كعلم السحر و الشعوذة ، فهناك علوم لا تضر من يجهلها ولا تنفع من علمها . " إنما العلم ثلاثة آية محكمة ، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، وما خلاهن هو فضل. " ثلاثة أقسام واجبة التعلم ، أولًا علم الاعتقاد ،وجوبه عيني ، ثانيًا : بعض مسائل الفقه وجوبها عيني أيضًا ، فالمسائل الإبتلائية واجبة التعلم ، فيجب أن نلتفت أن علم الفقه في بعض أبوابه واجب ، و ثالثًا الفريضة العادلة من علم الأخلاق وعلم تزكية النفوس ، فسورة الشمس ساقت أكثر من احدى عشر قسمًا ليثبت المولى خطورة تزكية النفس ، الفلاح و الخيبة يدور مدار اصلاح النفس ، فتعتبر من العلوم الواجبة . السبب الرابع : أن الأخلاق هي ميزان القرب من الله تبارك و تعالى ، السيد السيتاني يذكر : " هو بذلك من أهمّ أسباب السعادة في الدنيا والآخرة" ، النبي الأكرم كان الأفضل خلقًا فكان الأقرب الى الله ، قال رسول الله (ص): " أقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم خلقا وخيركم لأهله " ، وسيء الخلق بعيد عن رسول الله ، و البعيد عن الرسول بعيد عن الله عز وجل ، السبب الخامس : الأخلاق الحسنة تسبب ثقل ميزان العبد يوم القيامة ، " وأقرب الناس إلى الله سبحانه وأثقلهم ميزاناً في يوم ٍ تخفّ فيه الموازين هو أحسنهم أخلاقاً، " من ضمن ما يتمتع بالخفة في الدنيا و الثقل في الآخرة هي الخلق الحسن ، عن النبي ( ص ) قال: " ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق " .
النقطة الثانية التي أكد عليها السيد مسألة محاسبة النفس . " فإن وجد من نفسه قصوراً فلا يهملنّ نفسه بل يحاسبها ويسوقها بالحكمة إلى غايته " تحتاج النفس الى محاسبة ورقابة حتى تتكامل ، عن رسول الله (ص): " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهزوا للعرض الأكبر " . عن الإمام الكاظم (عليه السلام): " ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل خيرا استزاد الله منه وحمد الله عليه، وإن عمل شيئا شرا استغفر الله وتاب إليه " . النقطة الثالثة : " فإن وجد تمنّعاً منها فلا ييأس بل يتكلّف الخلق الحسن، فإنّه ما تكلّف امرؤٌ طباع قوم إلاّ كان منهم، وهو في مسعاه هذا أكثر ثواباً عند الله سبحانه ممّن يجد ذلك بطبعه " ، قسم السيد الناس الى ثلاثة مراتب : المرتبة الأولى من كان له الخلق بالطبع و السجية و الملكة ، المرتبة الثانية الأدون هو المتكلف ، المرتبة الثالثة هو المتمرّد ، فمتى ما حاول أن يصلح نفسه وجد نفسه متمردًا . يتوب في الليل و يعصي في النهار . فيتكلّف بالعمل الصالح أي التصنّع . أي لا يأتي بالعمل من تلقاء طبعه بل بمؤنة زائدة عليه . وهذا ليس رياءً بل أمرًا محمودًا و ممدوحًا ، و يُعد ذلك اسلوبًا من اساليب تهذيب النفس . فالخشوع و التخشّع ، و البكاء و التباكي يقودان الى الصفة الحسنة لصاحب النفس المتمردة الممتنعة فلا ييأس فيتحول من حال عارض الى ملكة راسخة .
النقطة الأخيرة هي مجالات الأخلاق ، التحلي بالأخلاق أمرٌ ضروري ، قسم السيد مجالات الأخلاق الى ثلاثة أقسام " فليُحسّن أحدكم أخلاقه مع أبويه وأهله وأولاده وأصدقائه وعامّة الناس ، ، الأول التعاطي الخلقي مع الوالدين ، لا شك أن التعاطي مع الوالدين بالخلق الرفيع يحقق مفهوم بر الوالدين وهو مأمور بذلك ، و حرّم عليه العقوق ، فلو أساء خلقه من القاء الكلمات البذيئة و النظرة في وجههما غضبًا فان ذلك يحقق العقوق " من نظر إلى أبويه نظر ماقت وهما ظالمان له، لم يقبل الله له صلاة " فهي أول دائرة ، الدائرة الثانية هي الأسرة ( الزوجة و الأولاد ) أكد الإسلام على حسن التحلي بالأخلاق الفاضة النبيلة التي تعزز العلقة الزوجية و الحب و المودة بينهما . في خبر سعد بن معاذ: إن سعدا أصابته ضمة في قبر ، إنه كان في خلقه مع أهله سوء . والخلق الرفيع ينمي سمات الأبناء . هناك الدائرة الثالثة هو المجتمع و هذا تقسيم حكيم .
التعليقات (0)