واصل سماحة الشيخ ابراهيم الصفا سلسلة محاضراته الرمضانية بحسينية الحاج أحمد بن خميس ، و ذلك في ليلة الخامس من شهر رمضان المبارك لعام 1442 هـ ، وتحت عنوان " القرآن آية وتدبّر " ، ابتدأ سماحته بالآية المباركة من سورة يونس " يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (57) " ، القرآن الكريم تحدث في الكثير من آياته حول ضرورة التدبر في حياة الإنسان ، وقد بينا في المحاضرة السابقة أن التدبر على نحوين ، الأول يكون قرآنيا و هو التدبر في آيات الكتاب ، و تارة يكون التدبر في آيات الكون ، و كلاهما يوصل الى الله عز وجل .و هناك فارق بسيط جدًا بينهما ، فان النظر في الآية الكونية يطلق عليه تفكر ، و النظر في الآية القرآنية يطلق عليه بالتدبر .
التأمل في آيات القرآن يسمى تدبر و الهدف منه الوصول الى التذكر ، من سورة ص " كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) " ، بعض الآيات تتحدث عن التذكر أحيانا و أحيانًا الدكر ، وهو صحيح لغةً على قبيلة ربيعة ، التدبر في آيات القرآن او التفكر في آيات الكون يؤديان الى التذكر وهو رفع الغفلة ، ومن اهم الذكر ، من سورة الأحزاب " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) " أحد مصاديق الذكر هو التسبيح ، ولكن ذكر الخاص بعد العام بلاغيًا يدل على خصوصية و أهمية التسبيح ، وهو التنزيه ، الذكر عادة يكون لفظيًا و تارة يكون حضوريًا . اذكر الله أي لا تغفل عن حضوره ، أي المتابعة لله و أنه هو الحاضر و الرقيب و العدل وتجنب متابعة الشيطان . ابتلي الإنسان بالغفلة و الغفلة تنقشع بالتدبر ، و الله أراد من التفكر و أراد من التدبر أن يوجد حالة التذكر أو التدكر . و الإدكار هو ضد الغفلة ، من سورة ق " لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) " اذا غفل الإنسان كان ذلك بابًا من أبواب الشياطين ، و بسبب الغفلة يذنب و يسوف في التوبة . الغفلة تبعد عن الله ، و الذكر يقرّب من الله ، كثير الذكر محبوب في السماء و مقرب الى الله ، و الغافل عن الله يزداد بعدًا عنه ، فالإنسان بحاجة الى أن لا يغفل كي لا يتمكن الشيطان منه و يقع في المعاصي ، و الغفلة تورث الإنسان الأمل السلبي حيث يعاجله الموت من حيث لا يعلم و من دون استعداد . ولهذا الله يريد منا التدبر والتفكر و التذكر .
نقف اليوم مع الآية التي تقدمت بها المجلس وقفة تدبر ، فيها من الأسرار الكثيرة التي تنتح انسانًا كاملًا ، هذه الآية يقول فيها المفسرون انما هي في بيان خصائص القرآن ، وهي خمس خصائص : الخاصية الأولى : تكمن في قوله تعالى " يا أيها الناس " ، فلم يقل الله عز وجل " يا أيهاالذين آمنوا " ، فيقول العلماء انها اشارة الى مفهوم العالمية الذي يقابل مفهوم العولمة الغربية ، العالمية الإسلامية ترتكز على ركائز ثلاثة ، عالمية المُرسل وهو الله رب العالمين جميعُا . و عالمية المرسل أو الرسول وهو النبي ( ص ) الذي هو رحمة للعالمين و عالمية الرسالة وهو القرآن وهو عالمي الخطاب ، و به خطاب عام و خطاب خاص . فيلحق الذين آمنوا فرع من فروع الدين كالصلاة و الوضوء والزكاة و الصوم و غيرها ، الخاصية الثانية هي الموعظة ،وهو أحد الخطابات التي تقع بين الناس ، والوعظ خطاب ينبعث من القلب و يتسم بالرقة و اللطف ، و التذكير بالنعم و البركات ، فليس فيه فضاضة ولا عنف ولاشدة ، بل الخطابات الوعظية خطابات قلبية ، وعلى حد تعبير الخليل بن احمد : الموعظة عبارة عن التذكير بالنعم و الطيبات المقترن برقة القلب . لتكن العلقة بينك و بين زوجتك و بينك و بين أبنائك علاقة قلب وشفقة و رحمة و هو من مصاديق الوعظ . رحمة الله وسعت غضبه فلابد بان نحبب الناس لله عز وجل ، حيث يقول في سورة الزمر " ۞ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) "
الخاصية الثالثة هي الشفاء ، المرض اما ان يكون عضوي أو روحي ، يقصد الله بأنه شفاء للصدور وان كان القرآن يصلح للأمراض البدنية الا انه يقصد في هذا السياق أمراض الروح كالوسوسة و الشرك و البخل و الحسد . ولم ينحصر دور التعافي بالقرآن على البعد الروحي فقط ، بل ان الروايات تؤكد أن القرآن شفاء حتى للبعد الجسماني . فلا تغفل عن مسبب الأسباب وهو الله عز وجل . فالقرآن شفاء لانه عودة الى الله عز وجل . واحدة من قواعد الطب الإسلامي عن النبي ( ص ) : " شفاء أمتي في ثلاث ، آية من كتاب الله أو لعقة من عسل أو شرطة حجام " و الآية أي ان القرآن شفاء لما في الصدور . من سورة الإسراء " وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) " فالذين آمنوا و أيقنوا هم من يتعافون به . الخاصية الرابعة الهداية ، القرآن يهدي من الغواية و الضلال . من سورة الإسراء " إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) " أقوم أي أصوب ، و الصواب هو الحق . القرآن يخرج الناس من الظلمات الى النور ، و الإنسان بحاجة أن يهتدي الهداية العامة بالقرآن فيخرج من الكفر الى الإيمان ، و هداية خاصة فيخرج من الذنب الى الطاعة و الإستقامة
الخاصية الخامسة هي الرحمة للمؤمنين ، الرحمة اذا نسبت للإنسان كانت بمعنى و اذا نسبت لله كانت بمعنى آخر ، الرحمة صفة مشاعرية قد يتصف بها الإنسان في حال وموقف دون آخر ولكنها اذا نسبت الى الله فلا يجوز ان تنسب له هذه الأحوال المتقلبة ، بل أن رحمته كانت بمعنى اللطف و النعم و الهبات والبركات . الله ينزل الرحمات على عباده فتتجلى في العتق من النار و تتجلى في طول عمر الإنسان و أن يرزقه الذرية و رفع الكرب و البلاء ، فرحمات الله أفعال و ليس بتقلب مزاجي . الرحمة هي حالة الفيض و استنزال البركات . بعدها نصل الى حقيقة ان هذه الآية تمثل منهجًا سلوكيًا لتكامل الإنسان في أربع مراحل وهذه المراحل علاقتها علاقة العلة بالمعلولية ، أولًا مرحلة الوعظ و هي افاقة الإنسان من الغفلة و هي اول الخطوات لعودته الى الله تعالى ، ثانيًا التطهير لازالة آثار الرين و الخطايا ، لن يطهر الإنسان قلبه الا بعد أن يفيق ، ثالثًا الهدى ، فيصير الإنسان على خط الهداية و الاستقامة وهي نتيجة التطهّر . رابعًا الإفاضة بالرحمة و الخيرات و البركات . اذا تكاملت الخطوات الأربع كان الإنسان من أهل الكمال و من أولياء الله . يوجد أناس يرزحون في وطأة ذنوبهم و مستنقعات معاصيهم و أمثال هؤلاء لا موعظة و لا نصيحة تفيد معهم .
التعليقات (0)