واصل سماحة الشيخ ابراهيم الصفا سلسلة محاضراته الرمضانية بحسينية الحاج أحمد بن خميس ، و ذلك في ليلة الثالث من شهر رمضان المبارك لعام 1442 هـ ، وتحت عنوان " القرآن و مستويات الإرتباط بالله " ، ابتدأ سماحته بحديث شريف لرسول الله ( ص ) : " إن للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن " نصوص كثيرة وردت على لسان أهل بيت العصمة ( ع ) تؤكد على أن القرآن الكريم يتألف من مجموعةٍ واسعة من الحقائق و هي ذات مراتب متعددة تكمن وراء اللفظ ، و بعبارة مبسطة نقول : اللفظ القرآني الذي له ظهوره من ورائه مجموعة من المعاني ، في هذه الرواية ، النبي يقول من ورائها سبعة بطون و في رواية أخرى سبعون بطن ، ورواية ثالثة سبعون ألف معنى ، هذه الروايات و النصوص تجعل من اللفظ القرآني هو قشرة المعاني ، من يتمسك باللفظ الخارجي دون أن يغوص في معاني الكتاب لم يحضَ بشيء ، عندما جاء الأمر عن ألسنة أهل البيت بتلاوتة القرآن و التعلق به لاسيما في شهر رمضان ، هناك تأكيد على نحو خاص من التلاوة ، التلاوة المطلوبة أن تتلو كتاب الله ( حق تلاوته ) ، فما هو المعيار في تحقق حق التلاوة من عدمها ، عن الصادق ( ع ) في تفسيره للآية الكريمة من سورة البقرة " الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) " ، أي يرتلون آياته و يتفهمون معانيه و يعملون بأحكامه و يرجون وعده و يخشون عذابه ويتمثلون قصصه و يعتبرون بأمثاله .
انطلاقًا من هذه المقدمة ينساق بنا الحديث الى عنوان البحث والذي يدور حول مستويات الإرتباط بكتاب الله عز وجل ، و مساحة الإرتباط بين العبد و بين الكتاب تجسد مساحة الإرتباط بين العبد و بين الله عز وجل ، و لهذا هناك نصوص كثيرة أكدت على تعميق الفهم في كتاب الله ، عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): " آيات القرآن خزائن العلم، فكلما فتحت خزانة فينبغي لك أن تنظر فيها " ، فما هي مستويات الإرتباط بكتاب الله ، أولًا الإرتباط اللفظي ، أي تلاوة دون أن نغوص في أعماق معانيه ، و السؤال هو ، هل أن الإرتباط اللفظي ممدوحًا أو مذمومًا ، هو ممدوحٌ لكن يكون في بعض حالاته سلبيًا ، جاء التأكيد على الإرتباط اللفظي ، عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام)، أنه قال: عليكم بمكارم الأخلاق فإن الله عز وجل يحبها، وإياكم ومذام الأفعال فإن الله عز وجل يبغضها، وعليكم بتلاوة القرآن فإن درجات الجنة على عدد آيات القرآن، فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن: اقرأ وارق، فكلما قرأ آية رقي درجة ". لا نتصور أن هذا المعنى معنى ساذجًا بسيطًا ، بل المقصود باقرأ وارقى أي تجسيد الآيات قولًا و معنىً ، ترفع الآية من يكون سلوكه معاكسًا لما قرأه ، من سورة المزمل " أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) " يقول الصادق في تفسيرها " هو أن تتمكث فيه وتحسن به صوتك" أي تتوقف عند آياته ، و لا تتعجل تلو آية ، بل اقرأ و تأمل ما جاء فيها ، و تحسّن به صوتك . اذن الرواية تدل على ضرورة الإرتباط اللفظي .
جاءت روايات أخرى تركز على مضمون آخر ليس الللفظ وهو التحزن ، عن النبي الأكرم ( ص ) " إن القرآن نزل بالحزن فاقرأوه بالحزن." ، و هناك بعض المقامات خاصة بالحزن ، ليكن صوتك جميلًا ، قال رسول الله (ص): "زينوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا " . هناك مستوى آخر من الإرتباط اللفظي ، مثل علم التجويد وقواعده فتجسد ارتباطًا لفظيًا فحسب، علم المقامات يجسد ارتباطًا لفظي فقط وعلم الطبقات أيضًا ، مع حسن تلك العلوم و فوائدها ، الا أن القارئ اذا انهمك فيها و تجاهل المضمون القرآني تحوّلت تلك العلوم الى حجب نورية ، لا ينبغي لنا أن نحبس أنفسنا على مستوى البعد اللفظي كي نعيش حقيقة القرآن . الإرتباط اللفظي لا يغير من مقام العبد عند الله اذا ما جعل تلك المعارف حجابًا بينه و بين الله . علينا أن نحذر من الحجب النورانية اللفظية . المستوى الثاني الإرتباط على المستوى الجمالي ، كل شيء له جمال بحسبه ، والقرأن الكريم له جماله ، عن أمير المؤمنين ( ع ) في حديثه عن القرأن " وَإِنَّ القُرْآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ، وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ. لاَ تَفْنَى عَجَائِبُهُ، وَلاَ تَنْقَضِي غَرَائِبُهُ، وَلاَ تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إِلاَّ بِهِ " ، الجمال في القرآن جمال بلاغته و فصاحته و سبك عباراته ، واليوم غابت اللغة العربية و البلاغة عن كثير منا ، وصارت من شأن المتخصصين ، يوجد جمال قرآني ينبغي أن نرتبط به لكن لا ننحبس عنده ، فنُحرم عن الكثير من الفيوضات الإلهية ، فعلينا أن نتجاوزه لنغوص في بطونه .
المستوى الثالث هو الإرتباط التاريخي ، فقهاؤنا الأجلاء و المفسرون العظماء أسسوا قاعدة مفادها أن المورد لا يخصص الوارد ، أي أن القضية التاريخية التي وقت في زمن النبي ، وعلى اثرها نزلت آيات و أحكام ، ليست مخصصة لتلك القضية فقط ، فمتى ما وقعت مثل القضية فان الحكم هو الحكم ، مثل السرقة في زمن النبي و السرقة في زمننا الحاضر ، و الزنا في ذلك الوقت و الزنا في وقتنا هذا ، لأن القضية التي وقعت قبل 1400 سنة لا تخصص الوارد ، من أراد أن يطلع على ذلك ينبغي أن يطلع على قصص القرآن و أحداثه ، هنا نتسائل ، القرآن -علميًا- هل نزل دفعيًا أو تدريجيًا ؟ ، وهذا بحث بين العلماء . فرق بين التنزيل و التنزّل ، يقول القرآن في سورة الدخان " إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) " أي نزل تنزلًا دفعيًا بتمامه ، يقولون نزل نزولًا دفعيًا بمعانيه بتمامها الى البيت المعمور وقول آخر الى السماء السابعة و قول يقول نزل على صدر رسول الله ( ص ) بمعانيه ، أما التنزل التدريجي ، فعندما تأتي أمراة تشتكي أو يظاهر أحد امرأته فتنزل الآيات لفظًا بعدها ، و كذلك لقصص عاد و أيوب وغيرها ، من تعاطى مع القرآن على أنه تاريخ مدون - وان كان حسنًا من جانب - لكنه سلبيٌّ من جانبٍ آخر .
القرآن ليس بكتاب قصصي ، فقصص الغابرين و الماضين فيها عبرة لا يمل منها الإنسان ، لكنه اذا ارتبط الإنسان بالقرآن ارتباطًا تاريخيًا دون الإعتبار ودون الوصول الى المضامين فهو مستوى من الإرتباط و ايجابي على مستويات ، لكنه لن يحقق المرجو من كتاب الله عز وجل فيجب أن نتجاوز الإرتباط التاريخي لنذهب الى المستوى الرابع وهو الإرتباط المعنوي ، ويمر أولًا بالتلاوة ثم بالتدبر و التفهم ، فتحول تلك المعاني الى سلوك و عمل . عن النبي ( ص ) " إني تاركٌ فيكم الثَّقَلَين، كتابَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وعترتي أَهْلُ بيتي، و لَن يفترقا حتى يَرِدا عليّ الحوض "، هذا هو القرآن الصامت و أهل البيت هم القرآن الناطق و كل عدوان على القرآن الصامت عدوان على القرآن الناطق ، و كل عدوان على القرآن الناطق عدوان على القرآن الصامت .
التعليقات (0)