المحور الأول : متطلّبات الساحة الإسلامية العامة.
المحور الثاني : متطلّبات الجماعة الصالحة بعد تمهيد عام لكلا الحقلين.
وذلك أنّ الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) قد تولّى الإمامة بعد استشهاد أبيه الجواد (عليه السلام) سنة (220 هـ) وهو لمّا يبلغ الحلم إذ لم يتعدّ عمره الثامنة ـ على أكبر الفروض ـ فهو قد شابه أباه الجواد (عليه السلام) في تولّي الإمامة في سنّ مبكّرة.
وقد كان لتولّي الإمام الجواد (عليه السلام) الإمامة في سنّ مبكّرة بعد استشهاد أبيه الرضا (عليه السلام) مغزى ديني ودلالات وآثار سياسية واجتماعية عديدة، وإليك جملة منها:
الدلالة الأولى:
أن أهل البيت (عليهم السلام) قد أضافوا دليلاً حسّياً جديداً بعد الأدلة العقائدية التي تمثلت في النصوص النبويّة أولاً والواقع العملي الذي جسّد جدارتهم لتولّي شؤون المسلمين وقيادة العالم الإسلامي فكرياً وعمليّاً.
والأئمة بعد استشهاد الحسين (عليه السلام) قد اتّجهوا لتربية الأجيال الطليعية ليحصّنوا الأمة الإسلامية من تبعات التلاقح الفكري أو الاختراق الثقافي الذي حصل من الانفتاح على ثقافات جديدة بعد الفتوح.
وقد عادت الهمينة الفكرية والريادة العلمية لأهل البيت (عليهم السلام) بالرغم من التخطيط الذي كان من ورائه الأمويون ومن سار في خطّهم لإعادة الجاهلية بكل مظاهرها إلى الحياة الإسلامية الجديدة.
فالإمام زين العابدين (عليه السلام) وابنه الباقر (عليه السلام) الذي عرف بأنه يبقر العلم بقراً وحفيده جعفر الصادق (عليه السلام) الذي دانت له أرباب المذاهب الأربعة ومن سواهم بالمرجعية العلمية والروحية في أرجاء العالم الإسلامي. قد أثبتوا بشكل عملي وحسّي جدارة أهل البيت (عليهم السلام) للريادة الفكرية التي هي روح الريادة الاجتماعية والسياسية إلى جانب نص الرسول على أنهم الخلفاء الحقيقيون له.
واستمرّ هذا الخط الريادي في عصري الإمامين الكاظم والرضا (عليهما السلام) وأفرز آثاره الاجتماعية والسياسية حيث هيمن حبّ أهل البيت (عليهم السلام) على قلوب المسلمين من جديد وراحوا يشيدون بهم وبمثلهم وعلوّ منزلتهم في الحياة الإسلامية، وانعكس هذا الأمر على الحكّام انعكاساً لا يُطاق فلم يتحمّل هارون الرشيد وجود الإمام الكاظم (عليه السلام) إذ اعتبره منافساً حقيقياً له حتى قضى عليه بعد سجنه مسموماً شهيداً.
كما لم يتحمّل ابنه المأمون الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) كذلك بالرغم من تغييره لسياسة أسلافه حيث حاول احتواءه وتجديد نشاطه بشكل ذكي ثم جدّ في إطفاء نوره بما أجراه من الحوارات والتحدّيات العلمية الصعبة بعد أن أيس من سلب ثقة الناس منه بفرض ولاية العهد عليه إذ كان قد خطط لإظهاره بمظهر الإنسان الحريص على الملك وحب الدنيا الذي كان هو شأن عامة الملوك من بني أُمية وبني العباس.
وبعد اليأس من نجاح آخر محاولات التسقيط بادر إلى تصفيته جسدياً ليقضي على أكبر منافس له . فإن الإمام الرضا (عليه السلام) كان يرى هو وكثير من المسلمين بأن المأمون لا يستحق الخلافة وإنّما هي رداء ألبسه الله من اصطفاه من عباده وهم أهل بيت الرحمة والرسالة.
فالمأمون يفتقد الرصيد الشرعي والشعبي بينما الإمام الرضا (عليه السلام) ولا سيما بعد فرض ولاية العهد عليه لم يسقط من القلوب، بل قد تألّق نجمه فهو يحظى بالرصيدين الشرعي والشعبي أكثر من ذي قبل ولا سيما بعد الحوارات العلمية التي أُجريت معه.
إنّ نقاط القوة التي كان يفتقدها المأمون رغم ذكائه وحنكته السياسية، قد سوّلت له وجرّته إلى اغتيال الإمام الرضا (عليه السلام) .
وهنا جاءت إمامة الجواد (عليه السلام) المبكّرة لتضفي رقماً جديداً ودليلاً واضحاً وقوياً آخر على جدارة أهل البيت (عليهم السلام) للقيادة الإسلامية يلمسه عامّة المسلمين بما فيهم الحكام. وشكّلت هذه الإمامة تحدياً صارخاً لا يمكن غضّ الطرف عنه ولا يمكن مواجهته بأي شكل من الأشكال، فقد عرّض المأمون الإمام الجواد (عليه السلام) لأصناف الحوارات والتحديات العلمية وأيقن بعجزه عن مواجهته، ولكنه كان لا يملك أيّ عذر للقضاء عليه.
ولكنّ المعتصم قد دنّس يديه بهذه الجريمة البشعة التي قضت على الإمام الجواد وهو في عمر الزهور حيث لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره ولم تدم أيّام إمامته سوى سبع عشرة سنة.
والقضاء على الإمام الجواد (عليه السلام) في هذه الظروف كاشف عن مدى عمق الهيمنة الروحية والعلمية للإمام الجواد (عليه السلام) وهو عميد أهل البيت وكبيرهم روحياً وعلمياً وقيادياً حيث طأطأ لعظمة علماء الطائفة وتعلّقت به قلوب شيعته ومحبّيه فضلاً عن قلوب من سواهم ودانت له بالولاء أعداد غفيرة من المسلمين.
وإلاّ فلماذا هذا التسرع في القضاء عليه وهو لم يحاول القيام بأية حركة أو ثورة ضد النظام الحاكم؟!
وقد جاءت الإمامة المبكرة للإمام الهادي (عليه السلام) في هذا الظرف وبعد هذه التحديات وإفرازاتها السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية. فهل نصدق بأنّ الحكّام بعد المعتصم، وبعد ما رأوه من هذه الهيمنة الروحية والعلمية لأهل البيت (عليهم السلام) على الساحة الإسلامية ـ سوف يتركونهم أحراراً وهم المتقمّصون لرداء خلافة الرسول (صلى الله عليه وآله) والموقع القيادي لأهل البيت (عليهم السلام) الذين قد اشتهر عنهم وعن جدّهم أنهم المنصوبون لهذا الموقع الديني والسياسي بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
وقد أثبتوا جدارتهم العلمية والفكرية والروحية لتولّي قيادة الأمر وإدارة شؤون المسلمين وهيمنوا على قلوب الناس وعقولهم؟
إنّ هذه النقطة تشكّل مفرق طريق واضح بين خطين خطّ الحاكمين وخط أهل البيت (عليهم السلام).
ولم يرتدع هؤلاء الحكام عمّا سلف عليه آباؤهم من مقارعة من ينافسهم وهم يرون وجود المنافس الحقيقي لهم حتى وهو لم يبادر إلى الثورة ضدّهم، ولم يثبت لديهم أنّهم وراء الانتفاضات التي كانت تنطلق بين آونة وأُخرى.
فما هو المخرج في رأيهم وبحسب مقاييسهم؟
وكما علمنا سابقاً، أن الإمام الهادي (عليه السلام) في كل مراحل حياته التي قضاها في مدينة جدّه أو في سامراء كانت تحت رقابة شديدة، وقد جرّعوه ما استطاعوا من الغصص التي كانت تتمثل في محاولات الاحتواء تارة والتسقيط العلمي تارة أُخرى ثم التحجيم بشتى أشكاله التي تمثّلت في الاستدعاء والتحقير والرقابة المكثّفة والسجن ومحاولات الاغتيال المتكررة خلال ثلاثة عقود ونصف تقريباً من سنّي عمره المبارك.
فما الذي كان ينتظره الإمام (عليه السلام) من هؤلاء الحكّام في هذا الظرف ومع هذه المحاسبات؟ وما الذي كان ينبغي له أن يقوم به والفرص التي بين يديه محدودة جدّاً وهي تمر مرّ السحاب؟
فعلى ضوء هذه الحقائق لابد أن نبحث عن متطلّبات المرحلة في كلا الحقلين ـ كما سيأتي بيانه ـ.
الدلالة الثانية:
إنّ إمامة الجواد (عليه السلام) المبكّرة والتي تلتها إمامة ولده الهادي المبكّرة أيضاً ذات علاقة وطيدة بقضية الإمام المهدي المنتظر الذي سيتولى الإمامة في ظرف عصيب جداً وعمره دون عمر هذين الإمامين (عليهما السلام)، كما أخبر بذلك الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام).
إنّ التمهيد الذي قام به الرسول (صلى الله عليه وآله) ـ تبعاً للقرآن الكريم ـ بالنسبة لقضية المصلح الإسلامي العالمي والتصريح بأنه سيولد من أبناء الرسول (صلى الله عليه وآله) من فاطمة وعلي (عليهما السلام) وانّه التاسع من أبناء الحسين الشهيد، كان ضرورة إسلامية تفرضها العقيدة لأنها نقطة إشعاع ومركز الأمل الكبير للمسلمين في أحلك الظروف الظالمة التي سيمرّون بها، وقد أيّدت الظروف التي حلّت بالمسلمين بعد وفاته (صلى الله عليه وآله) هذه الأخبار السابقة لأوانها.
إنّ هذا التمهيد النبوي الواسع قد بلغت نصوصه ـ لدى الفريقين ـ ما يزيد على الـ (500) نص حول حتمية ظهور المهدي (عليه السلام) وولادته وغيبته وظهوره وعلائم ظهوره وعدله وحكمه الإسلامي النموذجي.
وقد سار على درب الرسول (صلى الله عليه وآله) الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) خلال قرنين ـ وعملوا على تأكيد هذا الأصل وتأييده وإقراره في النفوس وجعله معلماً من معالم عقيدة المسلمين فضلاً عن الموالين لأهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم. وقد زرع هذا المبدأ ألغاماً تهدّد الظالمين بالخطر وتنذرهم بالفناء والقضاء عليهم وعلى خطّهم المنحرف، فهو مصدر إشعاع لعامة المسلمين كما أنه مصدر رعب للظالمين المتحكمين في رقاب المسلمين.
ولو لم يصدر من أهل البيت (عليهم السلام) إلاّ التأكيد على هذا المبدأ فقط ـ وإن لم يمارسوا أي نشاط سياسي ملحوظ ـ لكان هذا كافياً في نظر الحكّام للقضاء عليهم مادام هذا المبدأ يقضّ مضاجعهم.
ولكن اضطرارهم لمراعاة الرأي العام الإسلامي حال بينهم وبين ما يشتهونه ويخطّطون ضد أهل البيت (عليهم السلام) فكانت إرادة الله تفوق إرادتهم. غير أنهم لم يتركوا التخطيط للقضاء على أهل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله).
فعن الحسين أشاعوا أنه قد خرج على دين جدّه وهو الذي كان يطلب الإصلاح في أُمة جده.
والإمام الكاظم (عليه السلام) ـ ومن سبقه ـ قد اتّهم بأنه يُجبى له الخراج وهو يخطط للثورة على السلطان.
والإمام الرضا والجواد (عليهما السلام) قد قضي عليهما بشكل ماكر وخبيث بالرغم من علم المأمون بأنه المتهم في اغتيال الرضا (عليه السلام) والمعتصم قد وظّف ابنة المأمون لارتكاب جريمة الاغتيال.
إذن كان التمهيد النبوي لقضية الإمام المهدي الإسلامية يشكّل نقطة أساسية ومعلماً لا يمكن تجاوزه، حرصاً على مستقبل الأمة الإسلامية التي قدّر لها أن تكون أُمة شاهدة وأُمة وسطاً يفيء إليها الغالي ويرجع إليها التالي حتى ترفرف راية (لا إله إلاّ الله محمد رسول الله) على ربوع الأرض ويظهر دينه الحق على الدين كله ولو كره الكافرون.
وقد ضحى أهل البيت (عليهم السلام) لهذا المبدأ القرآني الذي بيّنه الرسول (صلى الله عليه وآله) واعتمده أهل البيت (عليهم السلام) كخط عام وعملوا على تثبيته في نفوس المسلمين.
ويشهد لذلك ما ألّفه العلماء من كتب الملاحم التي اهتمّت بقضية الإمام المهدي (عليه السلام) في القرنين الأول والثاني الهجريين بشكل ملفت للنظر.
فالإمام المهدي (عليه السلام) قبل ولادته بأكثر من قرنين كان قد تلألأ اسمه وتناقلت الرواة أهدافه وخصائصه ونسبه وكل ما يمتّ إلى ثورته الإسلامية بصلة.
واستمر التبليغ لذلك طوال قرنين ونصف قرن من الزمن. والمسلمون يسمعون كل ذلك ويتناقلون نصوصه جيلاً بعد جيل بل يعكفون على ضبطه والتأليف المستقل بشأنه.
والمتيقن أن عصر الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) ومن تلاهما من الأئمة (عليهم السلام) قد حفل بهذا التأكيد. فقد أُحصيت نصوص الإمام الصادق (عليه السلام) بشأن المهدي فناهزت الـ (300) نصاً. واستمر التأكيد على ذلك خلال العقود التي تلته.
فما هي إفرازات هذا الواقع الذي ذكرناه من الناحيتين السياسية والاجتماعية؟ وما هي النتائج المتوقعة لمثل هذه القضية التي لابد من إقرارها في نفوس المسلمين؟
وهنا نصّ جدير بالدراسة والتأمّل قد وصلنا من الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في هذا الشأن بالخصوص وفيه تأييده لهذه الحقيقة الكبرى.
(قال أبو محمد بن شاذان ـ عليه الرحمة ـ حدّثنا أبو عبد الله بن الحسين ابن سعد الكاتب (رضي الله عنه) قال أبو محمد (عليه السلام): قد وضع بنو أُمية وبنو العباس سيوفهم علينا لعلّتين:
إحداهما: أنّهم كانوا يعلمون (إنّ) ليس لهم في الخلافة حق فيخافون من ادّعائنا إيّاها وتستقرّ في مركزها. وثانيهما: انّهم قد وقفوا من الأخبار المتواترة على أن زوال ملك الجبابرة الظلمة على يد القائم منّا، وكانوا لا يشكّون أنهم من الجبابرة والظلمة، فسعوا في قتل أهل بيت سول الله (صلى الله عليه وآله) وإبادة نسله طمعاً منهم في الوصول إلى منع تولد القائم (عليه السلام) أو قتله، فأبى الله أن يكشف أمره لواحد منهم إلاّ أن يتم نوره ولو كره المشركون).
ومن هنا نفهم السرّ في تسرّع الحكّام للقضاء على الثلث الأخير من أئمة أهل البيت الاثني عشر(عليهم السلام).
كما نفهم السرّ في تشديد الرقابة على تصرّفاتهم حتى قاموا بزرع العيون في داخل بيوتهم واستعانوا بشكل مكثّف بالعنصر النسوي لتحقيق هذه المراقبة الدقيقة والشاملة.
كما أننا يمكن أن نكتشف السّر في أن الأئمة بعد الإمام الصادق (عليه السلام) لماذا لم يولدوا من نساء هاشميات يُشار إليهنّ بالبنان؟ بل ولدوا من إماء طاهرات عفيفات مصطفاة، فلم يكن هناك زواج رسمي وعلني وعليه فلا يكون الإمام المولود ملفتاً للنظر سوى للخواص والمعتمدين من أصحاب أهل البيت (عليهم السلام).
وحين كان يقوم الإمام السابق بالتمهيد لإمامته وطرح اسمه على الساحة بالتدريج، حينئذ كان ينتبه الحكام لذلك وربما كانت تفوت عليهم الفرص لاغتياله والقضاء عليه.
ولهذا حين كان يشار إليه بالبنان وتتوجه إليه القلوب والنفوس كانت الدوائر الحاقدة تبدأ بالكيد له باستمرار.
قال أيوب بن نوح، قلت للرضا (عليه السلام): نرجو أن تكون صاحب هذا الأمر وإن يردّه الله إليك من غير سيف فقد بويع لك وضربت الدراهم باسمك، فقال: ما منّا أحد اختلفت إليه الكتب وسئل عن المسائل وأشارت إليه الأصابع وحملت إليه الأموال إلاّ اعتلّ ومات على فراشه حتى يبعث الله عزّ وجل لهذا الأمر رجلاً خفيّ المولد والمنشأ حتى خفي في نفسه.
فالإمام الكاظم والإمام الرضا (عليه السلام) قد استشهدا وهما في الخامسة والخمسين من عمرهما بينما الإمام الجواد (عليه السلام) قد استشهد وهو في الخامسة والعشرين من عمره من دون أن يكون كل واحد منهم قد أُصيب بمرض يوجب موته، بل كانوا أصحّاء بحيث كانت صحتهم وسلامتهم الجسمية مثاراً لاتّهام الحكّام الحاقدين عليهم.
إذن فالإمام الجواد (عليه السلام) بإمامته المبكّرة التي أصبحت حدثاً فريداً تتناقله الألسن سواء بين الأحبة أو الأعداء قد ضرب الرقم القياسي في القيادة الربّانية وذكّر الأمة بما كانت قد سمعته من إخبار القرآن الكريم بأن الله قد آتى كلاً من يحيى وعيسى الكتاب والحكم والنبوة في مرحلة الصبا.
بل لمست ذلك بكل وجودها وهي ترى طفلاً لا يتجاوز العقد الواحد وإذا به يهيمن على عقول وقلوب الملايين.
وفي هذا نوع إعداد لإمامة من يليه من الأئمة (عليهم السلام) الذين يتولّون الإمامة وهم في مرحلة الصبا خلافاً لما اعتاده الناس في الحياة.
وقد كانت إمامة ابنه الهادي (عليه السلام) ثاني مصداق لهذا الحدث الفريد الذي سوف لا يكون في تلك الغرابة بل سوف يعطي للخط الرسالي لأهل البيت (عليهم السلام) زخماً جديداً وفاعلية كبيرة إذ يحظى أتباعهم بمثل هذه النماذج الفريدة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) .
والإمام المهدي الذي كان يتمّ التمهيد لولادته وإمامته رغم مراقبة الطغاة وترقّبهم لذلك، كان المصداق الثالث للإمامة المبكّرة ، فلا غرابة في ذلك بعد استيناس الأمة بنموذجين من هذا النوع من الإمامة، على الصعيد الإسلامي العام وعلى الصعيد الشيعي الخاص.
من هنا كان الظرف الذي يحيط بالإمام الهادي (عليه السلام) ظرفاً انتقالياً من مرحلة الإمامة الظاهرة إلى الإمامة الغائبة التي يُراد لها أن تدبّر الأمر ومن وراء الستار ويراد للاُمة أن تنفتح على هذا الإمام وتعتقد به وتتفاعل معه رغم حراجة الظروف.
فهو الظرف الوحيد لأعداد الأمة لاستقبال الظرف الجديد. ولا سيّما إذا عرفنا أن الإمام الهادي هو السابع من تسعة أئمة من أبناء الحسين، والمهدي الموعود هو التاسع منهم وهو الذي مهّد لولادة حفيده من خلال ما خطط له من زواج خاص لولده الحسن العسكري دون أي إعلان عن ذلك، فلا توجد إلاّ مسافة زمنية قصيرة جداً ينبغي له اغتنامها للإعداد اللازم والشامل.
إذن ما أقلّ الفرص المتاحة للإمام الهادي (عليه السلام) للقيام بهذا العبء الثقيل حيث إنه لابد له أن يجمع بين الدقة والحذر من جهة والإبلاغ العام ليفوّت الفرص على الحكّام ويعمّق للاُمة مفهوم الانتظار والاستعداد للظهور والنهوض بوجه الظالمين. ولا أقل من إتمام الحجة على المسلمين ولو بواسطة المخلصين من أتباعه (عليه السلام).
ومن هنا كان على الإمام الهادي (عليه السلام) تحقيقاً للأهداف الكبرى أن يتجنب كل إثارة أو سوء ظن قد يوجه له من قبل الحكّام المتربّصين له ولأبنائه من أجل أن يقوم بإنجاز الدور المرتقب منه. وهو تحقيق همزة الوصل الحقيقية بين ما حقّقه الأئمة الطاهرون من آبائه الكرام وما سوف ينبغي تحقيقه بواسطة ابنه وحفيده (عليهما السلام)، ولهذا لم يُمهل الإمام الحسن العسكري سوى ست سنين فقط وهي أقصر عمر للإمامة في تاريخ أهل البيت (عليهم السلام) إذ دامت إمامة الإمام علي (عليه السلام) ثلاثين سنة والإمام الحسن السبط عشر سنين والإمام الحسين عشرين سنة والإمام زين العابدين خمساً أو أربعاً وثلاثين سنة. والإمام الباقر تسع عشرة سنة والإمام الصادق أربعاً وثلاثين سنة والإمام الكاظم خمساً وثلاثين سنة والإمام الرضا عشرين سنة والإمام الجواد رغم قصر عمره كانت إمامته سبع عشرة سنة والإمام الهادي أربعاً وثلاثين سنة.
وتأتي في هذا السياق كل الإجراءات التي قام بها الإمام الهادي (عليه السلام) من الحضور الرتيب في دار الخلافة وما حظي به من مقام رفيع عند جميع الأصناف والطبقات بدءً بالأمراء والوزراء وقادة الجيش والكتّاب وعامة المرتبطين بالبلاط كما سوف يأتي توضيحه فيما بعد إن شاء الله تعالى وهكذا كل ما قام به بالنسبة للجماعة الصالحة التي سوف نفصّل الحديث عنها في فصل لاحق إن شاء الله تعالى.
التعليقات (0)