أن تنسحب سوريا من لبنان فتنكفأ على نفسها، وينكشف حزب الله أمام الضغوط الصهيوأمريكية بتوقف الدعم اللوجستي عنه من طهران عبر دمشق، ثم يُطلب من الأخيرة وقف تعاونها الاستراتيجي مع طهران وإقفال كافة الجسور الجوية بينهما وبالتحديد وقف العمل باتفاق 1982 وإلاّ هُدّدَ البعثيون في سوريا بالإزاحة من السلطة عبر عملية عسكرية واستخباراتية (تجميلية) للقصر الجمهوري ولقيادات في حزب البعث أو (ربما) للطائفة العلوية نفسها.
وبعد هذه السلسلة من الخطوات والتقليمات تُعدّ العدة لتوجيه ضربة عسكرية قوية وخاطفة لإيرن تستهدف المنشآت النووية ومراكز الأبحاث ومنصات إطلاق الصواريخ بعيدة المدى عبر الأجواء التركية أو الهندية، مع وجود ضمانات بعدم قدرة حزب الله على إشعال جبهة الشمال الصهيوني الذي يُلوّح بها دائماً كرد طبيعي للمحافظة على ميزان القوى في المنطقة، وفي الجانب الآخر عدم جود حليف عربي يُفسد مُسمّيات الضربة أو يُغير في ميزان أطرافها، وفي سبيل ذلك سوف تسعى واشنطن لمنع تل أبيب من القيام بضربة جوية داخل الأراضي الإيرانية، وهو ما بدا جلياً بتأكيد شارون بأن إسرائيل لن تضرب إيران، هذا مع وجود تأكيدات من جهات غربية عُليا تُفيد بأن الضربة الأمريكية القادمة لإيران ستكون عبر طرف ثالث يتم إعداده تحت نارٍ هادئة .
الموضوع قد يراه البعض عسكرياً أكثر من اللازم أو تهويلياً إلاّ أنه سيناريو مطروح، وإن بعض أجندته قد نُفِّذت (بقصد أو بغير قصد) رغم أن المؤكد أن السير فيه من نقطة العبث بمصير حزب الله قد يُصيب أصحابه في مقتل .
التحرك الأمريكي ما بعد الانسحاب السوري من لبنان قد بدأ فعلاً بالتركيز على موضوع سلاح حزب الله ومصير منتسبيه، عبر تأكيد كونداليزا رايس (خلال زيارتها الأخيرة للبنان) على ضرورة نزع سلاح الحزب الذي لا زالت الإدارة الأمريكية تنظر إليه كمنظمة إرهابية بينها وبينه " تاريخ ودم " على حدّ تعبيرها، في إشارة واضحة إلى التفجير الأول للسفارة الأمريكية في بيروت في نسيان إبريل من العام 1983 ثم تدمير ثكنات جنود البحرية الفرنسية والأمريكية (المارينز) في مطار بيروت من نفس العام واختطاف طائرة تي دبليو أي وانتهاءاً بموجة اختطاف الرهائن التي بدأت في العام 1984.
وقد تضغط واشنطن على تل أبيب لأن تنسحب من مزارع شبعا لتعرية شرعية وجود سلاح الحزب الذي لا يبدوا أبداً بأنه مستعد لأن يتخلى عن سلاحه بهذا العرض، خصوصاً وأن سقف المطالبات قد ارتفع بعد خطاب أمينه العام سماحة السيد حسن نصر الله عندما لوّح بالمطالبة بأن تكون الحدود الطبيعية للبنان تشمل القرى السبع الواقعة في الشمال الصهيوني، وهي القرى التي نُفَّذَت فيها عملية إبعاد منظمة لسكانها في إطار خطة تفريغ الجليل من سكانه العرب من قِبَل عصابات الهاغاناه الصهيونية في نيسان 1948 وتشرين الثاني من نفس العام، ثم ازداد سقف خطاب حزب الله عندما بدأ إعلامه المركزي بالتلميح إلى أن سلاح الحزب قد يبقى مرفوعاً لحماية حدود لبنان ما دام الأخير متجاوراً للكيان الصهيوني .
الولايات المتحدة بدورها تعي أن حزب الله لم يعد لاعباً أساسياً في المعادلة اللبنانية فقط بل أضحى تأثيره على محيطه الإقليمي والعالمي بارزاً وبقوة خصوصاً وأنه لا زال يحتفظ بقنوات اتصال مع الألمان والفرنسيين (وربما البريطانيين) كما أن دوره شبه مباشر بالنسبة لمنسوب تطور أو انتكاس العلاقات المأزومة بين طهران وواشنطن، من جهة أخرى فإن اتبع الحزب مؤخراً سياسة إبراز لقوة الردع العسكري والدفاعي التي يمتلكها عبر إطلاقه لطائرة مرصاد (واحد) بدون طيار الاستطلاعية في شهر إبريل الماضي، ولنوعية المضادات الأرضية التي يستخدمها لصد خروقات الطيران الصهيوني المتكررة للأجواء اللبنانية، رغم إن إرهاصات إطلاق طائرة مرصاد جاء متزامناً مع ازدياد الضغوطات الأمريكية والأوربية على إيران حول برنامجها النووي، وكان ذلك التماهي بين حزب الله وإيران مردّه إلى انسجام في الآيدلوجيا بين المركز والطرف، ولحجم الدعم السياسي واللوجستي (السخي) الذي تُقدمه إيران لحزب الله (100 مليون دولار سنوياً) الأمر الذي أفضى إلى تعاظم النفوذ الإيراني داخل الحزب، وبالتالي فرض استحقاقات والتزامات في صميم علاقة لبنان بإيران التي تنظر إليه الأخيرة باعتباره عُمقاً استراتيجياً مهمّاً لتواجدها في منطقة الهلال الخصيب ومن ثم الإمساك بأوراق مهمّة في معادل الصراع العربي الصهيوني، لذا فلا غرابة أن تكون البعثة الدبلوماسية الإيرانية في بيروت تفوق من ناحبة العدد السفارة الأمريكية.
وأن الصفة الدبلوماسية للسفير اللبناني في طهران هي "سفير فوق العادة" كما يوجد هناك مجلس لرجال الأعمال وجمعية صداقة لبنانية إيرانية وجمعية لمتخرجي جامعات إيران في لبنان، وهناك لجنة عليا مشتركة بين البلدين، على مستوى رئيس وزراء لبنان والنائب الأول لرئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقد بدا الدعم الإيراني للبنان واضحاً بعد انتصار الثورة الإسلامية في العام 1979 ثم ازداد بعد الاجتياح الصهيوني للبنان في العام 1982، ثم تطور أكثر على المستوى السياسي عندما لعبت طهران دوراً محورياً لإتمام مشروع اتفاق الطائف في العام 1987 وفي العام 1996 وبعد عملية عناقيد الغضب تعهدت طهران بإعمار المناطق المدمرة وإعادة تشييد محطات الكهرباء والطاقة، أضف إلى ذلك فقد لعبت المنظمات الإنمائية والإنسانية الإيرانية كمؤسسة المستضعفين والشهيد والإسكان دوراً هاماً في دعم عوائل الشهداء والمتضررين في لبنان وافتتحت لها فروعاً في البقاع والضاحية الجنوبية وفي العاصمة بيروت، كما أن منظمة الجهاد الزراعي الإيرانية نفّذت أكثر من 130 مشروعاً زراعياً طيلة الأعوام الخمسة والعشرين الماضية وبالتالي فإن الجهود التي تبذلها الإدارة الأمريكية لفك الارتباط ما بين لبنان وحزب الله من جهة وإيران من جهة أخرى قد لا تكون موفّقة .
السوريون بدورهم قد يرفضون الطلب الأمريكي بتقليص تعاونهم مع الإيرانيين الذين يمدونهم بالنفط كما أنهم يُشكلون المخزون الاستراتيجي لسوريا في حال تعرضها لأي هجوم، أضف إلى ذلك فإن تصريح محسن رضائي الأخير بأن إيران ستفتح مطاراتها العسكرية والمدنية لمساعدة سوريا إذا ما تعرضت الأخيرة إلى هجوم أمريكي ودعوة شمخاني إلى توسيع التحالف الاستراتيجي مع سوريا في ظل ما تواجهه طهران من ضغوط وتهديدات مماثلة قد شجّع دمشق لأن تثق أكثر بطهران في هذه المرحلة .
كان التحالف السوري الإيراني قد بدأ في العام 1982 بتوقيع البلدين اتفاقاً كبيراً قضى بأن تقوم إيران يتصدير ما مجموعة تسعة ملايين برميل من النفط سنوياً لسوريا منها حوالي 20 ألف برميل في اليوم مجاناً (7300000 سنوياً) إلاّ أن العلاقات بدأت فعلياً منذ فتوى السيد موسى الصدر في العام 1973والتي اعترفت بالعلويين كمسلمين "شيعة" حيث مثّل ذلك اعترافاً مهمّاً كان العلويون يطمحون إليه بقوة رغبة منهم في الحصول على غطاء شرعي لموقعهم الديني، وبما أن السيد موسى الصدر كان وكيلاً عن الإمام الخميني (قد) فقد كان ذلك مدخلاً جيداً لأن تبدأ علاقة من نوع ما بين الإمام وحافظ الأسد جعلت الأخير لأن يعرض على الإمام الخميني اللجوء لسوريا بعد إبعاده من العراق .
في الحرب العراقية الإيرانية قامت سوريا بدعم أكراد العراق بالإضافة إلى الجبهة الوطنية التقدمية والديمقراطية المناوئة لصدام وهو ما أدى إلى ازدياد الضغط على حدود العراق الشمالية وتحييد قسم كبير من آلته الحربية، كما أن مساندة سوريا لإيران حالَ دون تحوّل تلك الحرب إلى صراع عربي / فارسي أو إلى انقسام سني شيعي، كما ساهم السوريون في تمرير شحنات السلاح إلى إيران مُحدثين توزناً في الجبهات ساعد إيران لأن تقوم بهجوم عسكري مضاد في العام 1982 تكبدت خلاله القوات العراقية خسائر فادحة وتم فيه تحرير مدينة خرمشهر الاستراتيجية .
السوريون يُدركون بأن إيران تمتلك من وسائل الإغراء (نفط خام، غاز طبيعي، صناعات تحويلية) ما يجعلها أكثر قدرة على التعاطي مع الأزمات الإقليمية والدولية بذراع صلبة ومتماسكة، كما أن علاقاتها الواسعة مع أوربا وآسيا وإفريقيا سيعطيها المساحة الممكنة للعب دور الوسيط في الكثير من النزاعات بين الدول ليس آخرها الوساطة التي تقوم بها بين العراق وسوريا حول ما تقول عنه بغداد من أنه قواعد تدريب للإرهابيين داخل الأراضي السورية، في الجانب الآخر تستطيع سوريا توفير أجواء آمنة لأي محاولات إيرانية نحو التقرب من مصر ومن مناطق الهلال الخصيب، كما أن سوريا ورغم أنها انسحبت من لبنان إلاّ أن وجودها فيه ولعدة سنوات جعلها تمتلك من النفوذ والولاءات ما يُمكّنها من لعب دور في الداخل اللبناني ولو بوسائل أخرى، وبالتالي فإن الإيرانيين سيستثمرون ذلك لإبقاء نفوذهم في لبنان عبر البوابة السورية .
على أية حال فإن العلاقات بين إيران وسوريا وحزب الله سوف تمر باختبارات صعبة في المستقبل خصوصاً مع وجود تهديدات أمريكية كولونيالية بتصويب آلة الحرب ضد هدف ما في المنطقة قد يكون أحدهم.
التعليقات (0)