شارك هذا الموضوع

الجمهورية الإسلامية وتوازنات الحال العراقية

اتّسمت السياسة الإيرانية تجاه العراق خلال العقد الماضي بنوعٍ من التقارب الحذر فرضته رواسب التنافر القومي الحاد المستحكم والتباين الآيدولوجي بين النظامين السياسيِيْن ثم زادته أُواراً جراح حرب الثمان سنوات التي أصّلت بقوة أدبيات التنابذ والريبة إلى منتهاه رغم أن الأقدار شاءت أن تكون الدولتين متجاورتين لا يفصلهما سوى تاريخ بائس مُثخن بالجراح وذاكرة قاتمة منذ أيام الملِكَيْن الشقيقين إيرج وتور وحتى قُبيْل سقوط النظام البعثي في العراق أوائل شهر إبريل الماضي .


ففي حرب الخليج الثانية ( 1991 ) والثالثة ( 2003 ) حيّدت إيران موقفها السياسي والعسكري لكي لا تكون راية في معارك الآخرين، إلى أن غدا العراق بجوارها بطناً رخواً لا يقوى على شئ والولايات المتحدة مُصابة في كبريائها العسكري وعظمتها ( وحتى في رشدها ) جرّاء الهجمات التي تُشن عليها في أرض لم تعرف سوى الحِراب والمقاتلة منذ قرون، وبالتالي حصول إيران ( وبقدرة قادر ) على مطلقية عسكرية وسياسية في المنطقة أهّلها لأن تلعب دوراً محورياً في مصائر هذا الإقليم الجريح منتهزة فرصة غياب أي دور فاعِل لدول الخليج في حسم الكثير من الملفات الساخنة وهو ما أكدته زيارة وزير الخارجية الأردني مروان المعشر لطهران  مؤخراً حين ناقش مع المسؤوليين هناك إمكانية أن تقوم طهران بلعب دور ما لحماية حدود الأردن الشرقية الذي تضرر كثيراً من الأزمة العراقية اقتصادياً، هذا بالرغم أن التواجد العسكري الأميركي  في العراق قد قرّب إيران للمواجهة بصورة فاقعة وجعلها أكثر من أي وقت آخر عرضة للإبتزاز المباشر بعد أن قامت واشنطن ( بالإضافة إلى تواجدها المباشر هناك ) بِتَبْيِئَة المنطقة وفق منظور استراتيجيتها فضمَّت إيران لمحور الشر بُغية تحييدها تماماً ولاكت الرياض بهجمة إعلامية شرسة صوَّرتها بأنها منبعاً لوجستياً للحركات المتطرفة في العالم وساحة رحْبَة لنمو الفكر الأصولي المُتطرف .


وفي ظل وضوح تلك الخريطة الجديدة بعد سقوط نظام صدام يتبيّن الآتي :


(1) إن طهران تعرف جيداً أن حرب الإرهاب الذي دفع العالم إليها الرئيس بوش عقب أحداث 11 سبتمبر مازالت تُشكل نزيفاًَ مادياً ومعنوياً للدولة الأمريكية من دون أن تجني واشنطن نتائج فعلية وملموسة وسريعة على الأرض توازي جرح البرجين المنهارين في نيويورك، فتنظيم القاعدة لايزال منتشراً في أكثر من ستين دولة وأتباعه بالآلاف وإن بخلايا نائمة، وبالتالي فإن تحقيق نصر يُعتدّ به في العراق سيعوّض ولو مادياً النكسة الأمريكية في حربها على الإرهاب ويُعيد رسم الخريطة السياسية في المنطقة على أسس أمريكية براجماتية جديدة لها حساباتها وتكتيكاتها، كما أنه سيجعل بين أصابعها أزرار أهم مخزون نفطي بعد السعودية (يوازي احتياطي العراق من النفط البالغ 115 مليار برميل احتياطي كل من الولايات المتحدة وكندا والمكسيك وأوربا الغربية واستراليا ونيوزلندا والصين وكل آسيا غير الشرق أوسطية ) وفي سبيل تحقيق ذلك ستضطر واشنطن للجوء إلى دول الجوار ومنها إيران للتنسيق معها في إعادة ترتيب الأوضاع هناك، وهو اضطرار يفرضه حجم النفوذ التي تملكه الدول المجاورة النابع من عوامل جغرافية وإنسانية منذ آلاف السنين، وأمام ذلك الإضطرار من واشنطن للجوء لدول الجوار (ومنها إيران) تُرتب الأخيرة أولوياتها الإستراتيجية بما يتناسب وخططها وتحالفاتها المحلية والخارجية .


(2) تحاول طهران استغلال التنافر العراقي التركي المتصاعد نتيجة السياسات التركية السابقة حين كانت تجتاح مناطق الشمال العراقي باستمرار بحجة ملاحقة فلول حزب العمّال الوطني الكردستاني ثم عزمها بُعيْد سقوط نظام صدام حسين إرسال قوات تركية إلى العراق بجانب القوات الأمريكية والبريطانية، وقبلها التلويح (من قِبَل بعض السياسيين على الأقل) بإمكانية إعادة تحريك مطالباتها التاريخية في العراق، بالعودة إلى اتفاقية 05 يونيو 1926 بينها وبين بريطانيا والعراق والتي قامت على محاصصـة العـراق بنسبة 10 بالمئة من نفطه لتركيا مقابل إنهاء الأخيرة لمطالبها التاريخية بضم أجزاء من شمال العراق كالموصل إليها ومعاودة النظر بالتالي بما تتيحه تلك الإتفاقية من حقوق تركية بنفط العراق وهي الحقوق التي حصلت فيها تركيا بين عامي 1926 و 1955 على حصة ثلاثة عشر عاماً، ثم أعادت النص على هذه الحصة في الميزانية التركية بعد قيام ثورة 14 يوليو 1958 وعادت إلى حذفها من تلك الميزانية في العام 1986 على خلفية تحسّن علاقاتها مع بغداد وأنهت مطالبتها الفعلية بها من غير أن تغض النظر تماماً على المطالبة القانونية، وعليه فإن إيران ( بالإضافة إلى اقتناص ذلك التنابذ العراقي التركي ) تنظر إلى تلك المطالبات بريبة كبيرة لأنها ستفتح الباب من جديد للحديث عن إحداث توازنات جغرافية جديدة في المنطقة وهو ما لا تقبله طهران البتَّة .


كما أن إيران تدرك أيضاً أن جزءً من ذلك التنافر مردّه تعاون أنقرة المفرط مع تل أبيب، خصوصاً في ظل وجود أنباء تتردد حول مساعي إسرائيلية حثيثة للعب دور مُؤثر في ملفات إقتصادية وثقافية وقانونية عراقية وذلك بالتدثر بمكاتب استشارية أو شركات إعمار، وهو ما يزيد من مخاوف الأحزاب الإسلامية والقومية واليسارية العراقية النشِطة .


(3) أن المعارضة العراقية التي عاشت في إيران طوال فترة النضال انقسمت إلى سماطين الأول كان يرى ضرورة التماهي مع النموذج الإيراني من منطلق مرئيات دينية وشرعية تُحتّم ذلك  على غرار تجربة حزب الله في لبنان وكذا لضمان حصولهم على دعم إيراني يوازي ترتيبات المنطقة التي ستلعب فيها دول إقليمية ودولية كبرى، وكان من مؤيدي هذا الخط الشهيد محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وبعض قيادات حزب الدعوة الكاريزمية المستقيلة من الصف الأول كآية الله كاظم الحائري وآية الله محمود الهاشمي والشيخ الآصفي والشيخ الكَوراني، أما الطرف الآخر فآثر أن يجعل بينه وبين النظام الإسلامي مسافة تَقِيْه من وصاية العباءة الإيرانية لأية مشاريع سياسية، أو لربما كان ذلك مرجعه إلى تدخل العنصر القومي الذي هو مسكون أصلاً لدى الطرفين تجاه بعضهما !!


وكانت الجمهورية الإسلامية في مسيرة تعاطيها مع أطياف المعارضة العراقية التي كانت تسكن الأراضي الإيرانية ( أو على اتصال بها ) قد كسبت فعلاً شريحة واسعة منهم وبالخصوص المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق الذي قامت بالإغداق عليه عسكرياً ومادياً واستخباراتياً وقدمت له تسهيلات دبلوماسية وفتحت له حدودها الشمالية الشرقية مع العراق لممارسة نشاطه العسكري ضد النظام البعثي طيلة الثلاثة والعشرين سنة الماضية، حتى صار المجلس من أقوى الأحزاب العراقية المعارضة استطاع أن يُكوّن له مريديين كُثُر في العراق وخارجه كما أنه استطاع تمويل مشاريعة السياسية بوفرة من المال والسلاح قلّ نظيرها لدى باقي الأحزاب الإسلامية العراقية التي اختطّت مسار المسافة الفاصلة بينها وبين طهران .


والأهم من كل ذلك بأنه وبعد سقوط نظام صدام حسين في 09 إبريل الماضي ولتثبيت دور المجلس الأعلى (حليفها الاستراتيجي) وإلى حد ما بعض قيادات حزب الدعوة الإسلامية  فقد آثرت طهران أن تُقدم مساعداتها العينية والمادية عن طريق أولئك الحلفاء في مجلس الحكم كالتسهيلات البنكية والائتمانية الأخيرة ( 300 مليون دولار ) وعرض استخدام الموانئ الإيرانية لتصدير الغاز والنفط العراقي وبناء شبكة الكهرباء في المناطق الجنوبية وتأهيل المنشآت الرياضية وطباعة مئات الآلاف من الكتب الدراسية، كما انتهزت فرصة ترأس السيد عبد العزيز الحكيم لمجلس الحكم في دورته الحالية لتزيد من ذلك النهج، وما ضمن لها في المقابل تحريك ملف جماعة مجاهدي خلق الإرهابية الذي قرر مجلس الحكم طردهم من العراق وهو اقتراح مرّره السيد الحكيم في المجلس، والذي أكّد عليه مرة أخرى خلال زيارته لدمشق .


(4) أدركت طهران بأن منطقة الشرق الأوسط قد شهدت في العشرين سنة الأخيرة استقطاباً حاداً بين القوى الإسلامية والقوى القومية في جانب وبين العقل العروبي والقِطري في جانب آخر، وهو ما فتح المجال لصراع ومقاتلة فكرية وخلافات سياسية ألقت بظلالها السلبية علىشكل المنطقة وتوازناتها الجديدة، أهمها أن الأنظمة العربية صارت في حالة خبوء قطري، وبات من اللازم البحث عن إطار إقليمي مُطعّم بمفاهيم جديدة ذات طابع إسلامي يمكن أن يكون بديلاً عن الخطاب القومي وذلك من أجل بلورة كيان سياسي أوسع يمتاز بسعة توازنية واستراتيجة أكبر قد يُساعد مُستقبلاً في تحقيق ما تصبو إليه طهران تجاه القضية الفلسطينية، لذا فإن الجمهورية الإسلامية تحاول ( وعن طريق اعتمادها سياسة سحب بؤر التوتر في علاقاتها الخارجية ) أن تُمرر مشاريع إقليمية لا تتعارض مع مخاوف الدول العربية التي تخشى من سحب البساط من تحت أقدامها ( ومنها العراق ) و لا تخالف خياراتها المطروحة عن طريق محاولة التأكيد على هوية العراق الإسلامية بالإصرار على صياغة الدستور العراقي بما يتوافق وهوية العراق الدينية والتاريخية، وهو ما أكد عليه آية الله محمد علي التسخيري رئيس المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في كلمة ألقاها خلال افتتاح معرض ثقافي بالنجف الأشرف حين قال " المرجعية الشيعية تعرف مسؤولياتها، إن أمامكم مرحلة كتابة الدستور الإسلامي، والمرجعية الرشيدة والحوزة العلمية في هذا البلد تعي حساسية هذه المرحلة  " .


(5) تحاول الجمهورية الإسلامية التعامل مع الواقع الجديد في الساحة العراقية بسياسة ذكية ومرنة تقيها من شرور الوجود الأمريكي المرابط بجوارها ومحاولة تحييد أي حكومة قد تأتي من عباءة البيت الأبيض وفي نفس الوقت لا تكون بمعزل عن أية ترتيبات قد تُتخذ من قِبَل أطراف دولية وإقليمية في مستقبل العراق كما فعلت ذلك بالتحديد مع القضية الأفغانية عندما سارعت بترتيب خياراتها وتثبيت مصالحها هناك مُستفيدة من علاقاتها المتينة التي جسّرتها مع بعض القوى الأفغانية الفاعلة والتي تسلّمت فيما بعد سقوط حكم حركة طالبان عدد من الوزارات السيادية، فسارعت بالاعتراف بمجلس الحكم ودعوة أعضاءه لزيارة طهران، وهو اعتراف جاء أبكر من جامعة الدول العربية وأن كان بشكل مكتوم، خصوصاً بعد أن ضمنت توجهات أعضائه ومواقفهم تجاهها، وهو ما أكده صراحة الشهيد محمد باقر الحكيم الذي في تصريح نشرته صحيفة العدالة الناطقة باسم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية " أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية أول دولة تعاملت رسمياً مع مجلس الحكم " وكان خاتمي وأثناء لقاءٍ جَمَعه بزعيم الاتحاد الوطني الكردستاني جلال طالباني قد قال صـراحة  " نعترف بمجلس الحكم العراقي ونعتقد أن بإمكانه - بمؤازرة الشعب العراقي – إدارة شؤون البلاد واتخاذ الخطوات الضرورية لاستعادة استقلالها " خصوصاً وأن تعليقات خاتمي جاءت في أعقاب إعلان واشنطن عن نيتها نقل السلطة إلى العراقيين في يونيو 2004 وتشكيل حكومة منتخبة قبل نهاية عام 2005 .


وأمام تلك الخريطة السياسية المعقدة والعلاقات المتداخلة في المنطقة يبرز الدور الإيراني جلياً في أي تسويات قد تتطلبها الأجواء الجيوبوليتيكية الحالية والمستقبلية، ومن يُريد غير ذلك فعليه أن يتحمّل حتى يأذن الله في أمره .


 

التعليقات (0)

شارك بتعليقك حول هذا الموضوع

شارك هذا الموضوع