يبذل الكثير من الناس طاقات ذهنية وجسدية كبيرة ومتفاوتة في سبيل تحقيق المآرب والمقاصد، ولكنهم لا يصلون إلا إلى القليل منها أو بعض مظاهرها لأسباب متعددة. وينطبق هذا الأمر على كل ألوان المآرب والمقاصد السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
وكما يحقق البعض من الناس التفوق اثر ممارسات تجريبية فاشلة تصيبهم على طريق تحقيق تلك المآرب والمقاصد، هنالك الكثير ممن يحقق التفوق باللجوء إلى تحريك وتنسيق الكم المعلوماتي في جهتيه المعرفية والآلية، واستخلاص ما ينفع منها وفق احد المناهج العقلية أو بعضها أو كلها مجتمعة.
وفي كلتا الحالتين لابد من نيل نصيب من الخسائر ـ في أحسن الأحوال - تأتي على الجوانب أو الهوامش. وقد يتقدم هذا النصيب المقاصد والمآرب، وقد يتأخر عنها. إلا أن هنالك قواعد حضارية ثمينة إذا ما تميز الإنسان بها واخذ بتلابيبها، فإنه لا بد وان يحقق المعجزات على هذا الطريق. يأتي على صدارة هذه القواعد، قاعدة (تحقيق الفوز أو التفوق الاستراتيجي مقابل كل حالة إخفاق آني أو تكتيكي).
هذه القاعدة كانت ولازالت من مختصات العظماء أصحاب العقول والقلوب الكبيرة، كزعماء أفراد أو مجتمعات، رجال أو نساء، فقراء أو أغنياء، صغار أو كبار، حكام أو محكومين.
وتتمثل هذه القاعدة في أذهان بعضنا دائما وبصيغ وصور مختلفة كلما لاحت في افقها سير أهل البيت (عليهم السلام) بشكل عاما، وسيرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وذكرياتها بشكل خاص، وذاك الخطب الجلل الذي عاشته بعد رحيل نبينا الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) إلى الرفيق الأعلى.
وكلما تتبعنا واقعة خطبة فاطمة (عليها السلام) في مسجد أبيها (صلى الله عليه وآله) تساءلت الأذهان عن أمرين مهمين:
الأمر الأول: زهد فاطمة (عليها السلام) وما عرف عنها من نبذ لحطام الدنيا وزخرفها وزبرجها.
الأمر الآخر: إلحاحها في طلب حقها في الإرث في ظرف مصيبة كبرى ألمت بالمسلمين اثر رحيل أبيها (صلى الله عليه وآله).
وبين الأمرين، تظل دفائن العقول في إثارة مؤطرة بفلسفة شاملة للغاية من الجمع بين زهد فاطمة وبين إلحاحها في طلب ارثها. فلماذا لم يضم زهد فاطمة إرثها في ذلك الظرف العصيب الذي كان المسلمون فيه بأمس الحاجة إلى الاستقرار السياسي والاجتماعي حتى ينتهوا إلى حسم أمر خلافة المسلمين وزعامتهم، ومن ثم استمرار المسيرة الرسالية؟
فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت على علم بما سيؤول إليه أمر المسلمين بعد رحيل والدها. والآيات الكريمة أيضا واضحة الدلالة على ذلك. {...أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ...}. فما كان منها إلا أن جمعت بين كل المعطيات في ذلك الظرف، علما ومعرفة، لتحقق بين المسلمين في مسجدهم صورة أليمة ممزوجة بذكريات الحقيقة الكبرى وجذورها، وكذلك بتلك القيم الأصيلة التي تكمن فيها كل قواعد التفوق والنهوض الجديد بعد غياب نبي الإسلام.
وعلى ذلك، فان خطبتها المفصلة، التي ضمت مناقشة شرعية ومشروعية أمر ارثها، كانت معبرة جدا عن ماضي وواقع المسلمين، وعن المصيبة والرزية الكبرى التي استهدفت النيل من كل تلك الجهود والتضحيات التي بذلت في سبيل إرساء قواعد وأصول هذه الرسالة المباركة، وعن المحيط والظرف المرير الذي قصد تجريدها عن مجد أبيها وكل ما حققه أهل البيت (عليهم السلام) من دور في استقرار النظام الاجتماعي وأمنه ووحدته.
إن المحب والعاشق لعظمة فاطمة الزهراء (عليها السلام) يلمس اثر تفوق الزهراء (عليها السلام) في وقتها وظرفها، وان احد أسرار ذاك التفوق، هو ديمومته وامتداده إلى يومنا هذا، حيث يستمد منه القوة الدافعة في البناء الفكري والعلمي، السياسي والاجتماعي، وان غلبتنا أحزاننا أو سادت فينا عوامل الانكسار والإحباط والتقهقر.
وإذ ما رجعنا إلى أسباب تراكم هذا الكم العلمي والثقافي الرسالي برغم المنعطفات التاريخية الخطرة التي اعترضت المسيرة الرسالية وأدت إلى قيام مجازر بشرية وتدمير لمعاقل العلم والتراث الرسالي منذ وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله)، فان أكثر الأسباب تلك تأثيرا، هي تلك المتعلقة برغبة التفوق والنهوض المستقاة من موقف فاطمة (عليها السلام).
فأهل البيت (عليهم السلام) كلهم أنوار كاشفة لكل عوامل النهوض والتفوق لكل محب لهم وعاشق لنهجهم الرباني، فكيف بنا ونحن نقف أمام فاطمة الزهراء (عليها السلام) سيدة نساء العالمين التي تفرح السموات لفرحها وتحزن لحزنها، وغضبها من غضب رب السموات، ورضاها من رضاه تعالى.
لقد فقدت الزهراء ارثها في ذلك الظرف التاريخي الخطير، لكنها أورثت شيعتها الرساليين: أن التفوق لا يكون إلا بكمال السيرة وذكرياتها التاريخية وإمتدادتها الفكرية والاجتماعية والسياسية. فإما أن تشتمل السيرة والذكرى على كل حوادثها وشخوصها، مع التصنيف والتقييم والتقويم والتقسيم السليم لها وفق ضابطة الفصل بين ما هو حق وما هو باطل، المستمدة من نصوص مصادر التشريع وآليات البحث التاريخي المعروفة، وعلى ذلك يؤسس لواقع صحي في كل أبعاده ومجالاته الفكرية والسياسية والاجتماعية وغير ذلك. أو تظل ناقصة بجهل أو بتعمد، يغفل بعضنا من أصحاب النفوس الهزيلة والعقول الضحلة جزءا من وقائعها وطمس بعضها الآخر، خضوعا لما تمليه الأهواء والميول وما تخفي أمارات السوء.
وهنا يلجأ بعض أصحاب الأمر والعلاقة في واقعنا المعاصر إلى ذاكرة تبعث على السخط والسخرية في اغلب الأحيان، فيأخذ ببعض مجريات التاريخ ويتجنب البعض الآخر. كما هو الحال في أمر الرزية الكبرى التي عانت منها فاطمة الزهراء (عليها السلام)، حيث لا تجد فاطمة الزهراء ذكرا في بعض السير التاريخية ومذكراتها، تحت مبرر الخوف من تفتح أبواب أخرى غير مستحبة تخضع بعض الشخوص أو الظروف والعوامل التاريخية إلى جدل فلسفي بين القبول أو الرفض.
وفي ظل هذا الأمر الجدلي الخطير تكمن عظمة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وموقفها في مسجد والدها (صلى الله عليه وآله)، إذ زهدت في دنياها، ولكنها خطبت خطبة عظمى، متكاملة في وألفاظها ومعانيها ومنهجها في سرد الوقائع والمجريات التاريخية. ابتدأتها بالشكر لله تعالى على ما انعم، ثم عظمت دور والدها في هداية المسلمين من بعد تخلفهم واستهداف الأمم لهم. ثم بعد ذلك عرفت بنفسها وأمير المؤمنين علي (عليه السلام) حتى أشارت إلى موقف التشريع من الإرث والإمامة، والانقلاب الخطير على الأعقاب اثر وفاة والدها. ثم العاقبة التي تنتظر رجال الانقلاب وتيارهم الفكري.
ولو استقرأنا نص كلمة الزهراء (عليها السلام) وظرفها التاريخي وعادات الناس وتقاليدهم وقيمهم وأعرافهم، وما للخطبة من دور عظيم في رسم عالم المعرفة والفكر في تلك الحقبة الإسلامية الأولى، لوجدنا أن الزهراء (عليها السلام) قد حققت تفوقا تاريخيا فريدا بنص خطبتها وتوقيتها، أسس لمسار تاريخي جديد واضح المعالم، لا لبس فيه، برغم ميزان القوى الذي رجح لصالح غير آل محمد (عليهم السلام)، وقلة في أنصار ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) وتكالب الويلات على أتباعهم وأنصارهم.
إن الزهراء (عليها السلام ) سجلت بخطبتها موقفا رائدا، فهي لم تعرف المسلمين بواقعهم وظروف النكبة التي حلت بهم نتيجة رحيل نبينا محمد (صلى الله عليه وآله)، وطبيعة التحول السياسي المفاجئ الذي طرأ على المدينة ومحيطها فحسب، بل إنها أوضحت سبل التفوق والنهوض والعودة إلى الحق ومصادر العزة والكرامة، وذكَرت بالنظرية السليمة لملئ الفراغ الكبير الذي أحدثه غياب النبي (صلى الله عليه وآله) أيضا.
ونجد إن أهم أسس التفوق والعودة والنهوض في خطبة فاطمة (عليها السلام)، هي: الالتزام بالإيمان والعدل وطاعة أهل البيت (عليهم السلام) وأمامتهم، التي جعلها الله سبحانه وتعالى بلطفه وعنايته قيما من القيم العظمى في تعالم ديننا الحنيف لا يمكن أن تنفك عنها أية أعمدة للحضارة. إذ قالت فاطمة: "فجعل الله الإيمان، تطهيرا لكم من الشرك... والعدل تنسيقا للقلوب، وطاعتنا نظاما للملة، وإمامتنا أمانا من الفرقة...".
فلا بد لمجتمعنا المميز بأمانته في إحياء شعائر أهل البيت (عليهم السلام) عامة، وذكرى ميلاد فاطمة الزهراء خاصة، أن يصبو إلى تحقيق التفوق أمام كل رزية أو مخمصة تسعى للنيل من عزته وكرامته في أي شأن من شؤون الحياة. ولا يكون التفوق إلا باختيار الظرف الأنسب والنص الأمثل في التعبير عن أية نظرية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية معتمدة على طريق تحقيق التفوق. ولابد لأية نظرية سليمة من إيمان عميق يترأسها حتى يتحقق العدل في مجتمعنا، فيسود القلوب تنسيقا بين الحقوق والواجبات.
فحين تغيب القلوب المنسقة عنا، فإننا لن نستطيع أن نخرج أية نظرية اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية تنموية إلى الواقع، وبذلك سنفقد قيمة التفوق أمام كل سلبية تعترضنا. وإننا لازلنا نعترف اليوم بأن أكثر العوامل خطورة في التمزق الاجتماعي والفرقة التي ضربت أطنابها في أوساطنا وأطرافنا منذ عقود من الزمن، هي غياب تنسيق القلوب الذي يعد من ابرز مظاهر ضعف الإيمان فينا وتقهقره.
ولا ننسى أيضا، إن النظام الاجتماعي المستقر الذي بواسطته نتمكن من اختراق حجب التخلف والتراجع في مختلف المجالات الإنسانية الحضارية، لا يمكن له أن يسودنا ويغلب سلوكنا وعلاقاتنا الإنسانية، إلا بالعودة إلى طاعة وإمامة أهل البيت (عليهم السلام) وتعاليمهم. وكانت العبرة الكبرى التي خلصت إليها مجتمعاتنا الإسلامية منذ عهد الإسلام الأول إلى يومنا هذا، إن الفرقة والفرق لم تتوقف عن تعددها وزيادة ألوانها وأشكالها السياسية والعقيدية منذ أن آل أمر المسلمين إلى غير طاعة وإمامة أهل البيت (عليهم السلام). وان التفوق أصبح معْناً غائبا في واقع الحال، ولفظا حاضرا في خطبنا المدوية العصماء.
فسلام عليك يا فاطمة الزهراء يوم ولدت..
يا مثال الإيمان..
ويا مثال العدل والإحسان..
ويا مثال التفوق على الخطب في كل زمان ومكان.
التعليقات (0)