جلست ( انفال ) في عيادة الطبيب ، تنتظر نتيجة الفحص ، وكانت تستعجل الوقت لأنها مدعوة إلى حفلة ! لم تكن تفكر في طبيعة النتيجة بقدر ما كانت تخشى من تسرب الوقت وفوات موعد الحلاقة ، فهي لم تكن تجد في التحليل الذي تنتظر نتائجه سوى إجراء احتياطي جاء نتيجة رغبة الأهل واهتمامهم بأمرها ، وإلا فهي لا تحس بأي عارض مخيف ، ولا تستشعر من المرض ما يريب ، عدا بعض الآلام الطفيفة في المفاصل ، وأخيراً استدعيت إلى غرفة الطبيب ، فدخلت عليه وهي مستعجلة إنهاء الأمر ، والاسراع في الخروج ، وفوجئت عندما دخلت بسحابة من كآبة ترين على وجه الطبيب ، الشيء الذي دعاها أن تقول عندما سألها :
هل أنت صاحبة التحليل ؟
كلا إنها ابنتي.
فقد أرادت أن تعرف الحقيقة ، ولعله سوف يتحفظ معها لو عرف أنها صحابة التحليل ، ووقفت أمامه تنتظر ، فأشار إلى كرسي هناك ، وطلب منها أن تجلس فجلست ، وقد بدأ الوجل يتسرب إلى نفسها ، وتطلعت إليه في لهفة ، ولكن ليس من أجل الخروج في هذه المرة بل من أجل فهم الحقيقة.
قال : لماذا لم ترسلوا رجلاً بدلاً عنك لأخذ النتيجة يا أنسة ؟
قالت : لأني كنت مارة من هنا ولهذا لم نجد ما يستدعي إرسال سواي ثم أنني أتمكن أن أسمع الحقيقة مهما كانت.
فسكت الطبيب وهو ينظر إليها في جد مشوب بالأسف ثم قال :
إن هذا يؤكد أنك فتاة مثقفة فاهمة لطبيعة الحياة. قال هذا ثم سكت ، فسرت في جسمها رعدة من الخوف وتساءلت:
كيف ؟ وماذا تعني يا دكتور ؟ قال إن نتائج التحليل تشير إلى وجود مرض في الدم. قال هذا ثم سكت وأطرق في أسى ، فلم تجد أنفال حاجة لأن تستزيده أو تستوضحه أكثر ، فرددت في فزع قائلة ( سرطان ) ؟
ولم يرفع الطبيب رأسه وبقي ساكتاً في ألم من أجل هذه الأخت المصابة ، وكان هذا السكوت بمثابة حكم بالاعدام عليها فغمغمت تقول في شبه حشرجة :
آه لقد انتهيت إذن.
وهنا عرف الطبيب أنها كانت تكذب عليه .. نعم عرف ذلك ولكن بعد فوات الأوان فرفع إليها وجهه ونظر نحوها نظرة حنو وقال:
أنني آسف ، لماذا كذبت عليّ يا بنتاه ؟ ولكن وعلى كل حال فإن الموت والحياة بيد الله وكم من مريض عاش وصحيح مات ؟
وكانت ( أنفال ) تشعر أن روحها أخذت تغور إلى الأعماق وأن يداً فولاذية امتدت لتشد على قلبها فتعصره في قساوة ولكنها استجمعت فلول قوتها وهي تقول : أرجو المعذرة يا دكتور وشكراً.
فرد عليها الطبيب مشجعاً : كوني قوية ومتفائلة ، فإن ال طب لا يزال في تقدم ولعل المرض الذي لا يوجد دواء له اليوم سوف يوجد دواؤه غداً ولهذا فإن الأمل لا يزال موجوداً وسوف أبحث عن أحدث الأفكار الطبية لعلني أجد الدواء المطلوب ولهذا فأنا أرجو أن تتركي لي رقم تليفونك يا بنتاه.
وبطريقة روتينية ذكرت له رقم الهاتف فهي لم تكن تعي ما تقول أو ما يقول فقد كانت تعيش آثار الصدمة في عنف ومرارة ثم أعادت عليه كلمة الشكر وخرجت.
وفي البيت. كتمت الحقيقة فلم تكن تعرف أو تقوى أن تتحدث عنها ثم إنها وجدتهم في شغل عن ذلك بالاستعداد للذهاب إلى الحفلة ... وسألتها أمها قائلة: ألم تمري على الدكتور يا أنفال ؟ ثم لماذا لم تذهبي إلى الحلاقة ؟
كان السؤال عابراً غير منتظر للجواب ولهذا فقد ردت عليها باقتضاب قائلة : لأنني سوف لن أذهب إلى الحفلة ، قالت هذا وصعدت إلى غرفتها وأغلقت الباب من الداخل ثم استلقت على السرير وهي بكامل ملابسها وأصوات أهلها تصلها وكأنها تأتي من وراء بعد ساحق وكان صوت الريح يطرق أذنها فتجد فيه عزفاً جنائزياً حزيناً وكأنه العويل الذي ينعى إليها شبابها وحياتها الفتية.
حتى غرفتها الحبيبة إليها أصبحت تجد أنها غريبة فيها ما دامت راحلة عنها بعد قليل والبيت ؟ أنها أصبحت ضيفة في هذا البيت وسوف تتركه مجبرة لكي يحل آخرون مكانها فيه يذكرونها فترة ثم ينسونها بعد حين ، وحاولت أن تبكي فلم تسعفها الدموع فهي تريد أن تفكر ولا تريد أن تبكي وتلفتت حولها في ألم.
وجدت الستائر التي بذلت الكثير من الجهد حتى حصلت عليها والتي فتشت عن أحلى وأحدث تصميم لخياطتها ، هذه الستائر سوف تبقى لتذهب هي إلى غير رجعة فماذا يهمها الآن لو كانت من خام او كتان ؟ أنها ذاهبة عنها ومخلّفتها لسواها ، ليتها ما بذلت الجهود من أجلها ، ليتها وفرت ذلك الوقت والمال لشيء يفيدها في محنتها هذه ، وهنا بدأت تفتش في ذاكرتها عن شيء لعله يفيد ماذا ؟ أن لديها كل شيء الشباب . والجمال والثقافة والمال والأثاث والرياش. ولكن هل يفيدها شيء من ذلك أو يدفع عنها خطر الموت ؟ إنها كانت تتمنى لو تصبح موظفة تتقاضى راتباً شهرياً محترماً وها هي الآن موظفة تتقاضى راتباً ولكن هل سوف يستنقذها راتبها من الموت ؟ وهنا خطرت لها فكرة سارعت إلى التليفون وكان البيت قد أصبح خالياً إلا منها فقد ذهب الجميع إلى الاحتفال فاتصلت بطبيبها وتساءلت في لهفة قائلة: لو ذهبتُ إلى الخارج هل سوف أجد علاجاً شافياً هناك ؟
قال : ليس هناك من جديد أنها أتعاب وخسارة بدون فائدة.
فأغلقت السكة وجلست على المقعد بجوار الهاتف متهالكة. حتى راتبها لا يغير من الواقع شيئاً. ثم نهضت تتجول في أرجاء البيت وكأنها تريد أن تودع هذه المعالم الحبيبة اليها وألقت نظرة على الحديقة وقالت ليتها تعلم ، ليت هذه الأشجار تعلم أنني راحلة. ليت هذه الأحجار تفهم أنني راحلة ليت هذه الجدران تعرف أنني راحلة وأنني سوف لن أبدو متنقلة بين جوانبها بعد الآن ، ليت هذه الأبواب تفهم بأنني راحلة وأن يدي التي كانت أول فاتح لها سوف لن تفتحها بعد اليوم ، ليت هذه الروض يتمكن أن يستوعب معنى أنني راحلة ، وهذه الأزهار التي غرستها يداي في التربة مستهينة بجميع ما كلفني ذلك من وغزرات شوك مدمية أو صلابة صخور متحجرة هذه الزهور التي طالما سقيتها من عرق جبيني إذا انقطع عنها الماء ورويتها من دموع عيني متى ما لاحت عليها علامات الذبول. أما الآن فليتها تعلم بأنني راحلة ، هذه الأشجار المثمرة التي استلمتها صغيرة ضعيفة فأمددتها بما وسعني من عناصر الحياة والرواء حتى اهتزت وربت وأنبتت نباتاً حسناً ، هذه الأشجار أتراها تفهم بأنني راحلة أو تراها سوف تذكر احتضاني لها أيام زمان حينما كانت لي معها أيام ؟ آه ليتها تعلم وليتها تفهم ، ثم هذه المقاعد التي كانت تحتضن رأسي تارة وتسند ساعدي أخرى أتراها تحس بأنني راحلة عنها عما قريب ، أم تراها سوف تستبدل بي غيري وتمهد الجلوس لسواي ومنضدتي هذه التي كتبت فوقها بالدموع مرة وبالبسمات مرات أتراها تعلم بأنني راحلة ؟ وهل تفتقد رنة قلمي فوقها وموضع أوراقي داخل جرارها ، آه ليت كل ما حولي يعلم بأنني راحلة.
ثم ( ليتني كنت أعلم ) بأنني راحلة إذن لما عشت الحرص على الدنيا ولما استشعرت الفخر والغرور ، نعم ليتني كنتُ أعلم بأنني ضيفة في هذه الدنيا أذن لما خدعتني بخداعها ولما غرتني بزخرفتها. ( ليتني كنت أعلم ) إذن لعرفت أن الرحيل عن حياة بسيطة هو أسهل من الرحيل عن حياة منعمة مترفة ، لو لم أكن أعيش هذا الترف لكانت النقلة من هذه الحياة إلى تلك الحياة أسهل بالنسبة إليّ ، إن أهلي الآن في الاحتفال.
هذه الاحتفالات التي كثيراً ما كنت أنتظرها في المناسبات وأعد من أجلها الفساتين وأفتش بسببها عن أحدث التسريحات هل أغنت عني شيئاً من طربها وسرورها ؟ وهنا تهاوت أنفال على مقعد إلى جوارها وكأنها توصلت إلى حقيقة كانت تجهلها وقالت : ماذا آخذ معي ؟ وهل آخذ معي شيئاً سوى الأكفان والأعمال ؟ ولكن ما هي الأعمال التي سوف تصحبني خلال هذه الرحلة البعيدة ؟ لا شيء ! نعم لا شيء !
وسرح بها الفكر بعيداً إلى نصائح صديقتها سرّاء عندما كانت تحبب إليها طاعة الله قائلة: ( فَتَزَوَّدوا إنَّ خّيْرَ الزَّادِ التَّقْوى ) إنها حينئذ لم تكن تشعر بأهمية الزاد ، أما الآن فهي في حاجة إلى زاد ، في حاجة إلى عمل صالح تقدمه بين يديها أمام الله ، بماذا تجيب يوم الحساب ؟ كيف سوف تطلب الرحمة من ربها وقد عصته في أبسط الاشياء ؟ كيف سوف تأمل العفو من خالقها وهي لم تستجب لأمره خلال مسيرتها في الحياة ؟ ليتها كانت قد قرأت القرآن بدل الساقط من الروايات . ليتها كانت قد تعرفت على دينها عن طريق الكتب بدلاً عن طريق التعرف على مسارح هوليود عن طريق المجلات.
واستمرت أنفال تقول ليتني ليتني ما أسخطت فلانة ولا اعتديت على فلانة ، ليتني ما كذبت على أحد وما اغتبت أحداً ، ليتني ما اسكتبرت على فقير ولا استعليت على مسكين ، ليتني أعيش من جديد لكي أصحح أخطائي وأعمل ما يرضي ربي ، لقد عبدت أهوائي ورغباتي وتجاهلت عبادة ربي ، ليتني أعيش إلى فترة عسى أن أكفر عن سيآتي . وخطرت ببالها آية سمعت جدها يقرؤها يوماً: ( حَتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب أرجعونِ * لعلي أعملُ صالحاً فيما تركتُ كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ) وكأنها تناجي ربها بذلك... كلا أنها ليست كلمة عابرة أعني ما أقول يا رب ... وهنا وخلال مناجاتها لرب الرحمة انبجست الدموع من عينيها بحرقة وغزارة وأسندت رأسها إلى يدها وأخذت تبكي. نعم تبكي ولكنه بكاء ندم وليس بكاء ألم ، وصممت أن لو أمتد بها العمر فسوف لن تعصي الله طرفة عين ، ورن جرس الهاتف فقامت إليه متثاقلة ورفعت السماعة لتقول ( نعم ) وكان صوتها متهدجاً قد غيرته الدموع فجاءها صوت يقول :
هل أن الآنسة أنفال موجودة ؟
فعرفت أنفال الصوت ، أنه صوت الطبيب ! قالت :
نعم إنها أنا يا دكتور.
فاندفع يقول في فرحة صادقة: تهنيك السلامة يا بنتاه ، إنه اشتباه ، أنك صحيحة سالمة والحمد لله.
وأذهلتها الكلمات فلم تعد تعرف بماذا تجيب ورددت وكأنها في حلم قائلة: سالمة وكيف ؟ لعلك تهزأ بي يا دكتور ؟ قال : معاذ الله أن أكون هازئاً ولكنه اعتذار وصلني الآن من المشرف على التحليل يشرح فيه أنه وقع في خطأ إذ سجل اسمك أمام اسم مريضة أخرى ، وها هي نتيجة تحليلك سالمة من كل ما يضير فاحمدي الله على سلامتك يا بنتاه.
فرددت أنفال معه كلمات الحمد قائلة: الحمد لله . وشكراً لك يا دكتور.
ثم أغلقت السكة وهي تحس بأنها تحيا من جديد وتذكرت ما عاهدت الله عليه وعرفت أنها إن نجت من موت معلوم الوقت فهي لن تنجو من موت مجهول الوقت وإن الانسان ضيف في هذه الدنيا مهما طال به الأمد ... فكان أول عمل قامت به أنها توجهت إلى القبلة لكي تصلي صلاة المغرب والعشاء بعد أن بعد بها العهد عن الصلاة ، وحين انتهت من أداء الفريضة عاهدت الله من جديد أن تبقى متمسكة بكل ما أمرها به من صلاة وصيام وحجاب وأن تترك كل ما نهاها عنه ، ولأجل أن لا ننسى فقد خطت هذه الآية المباركة وجعلتها على جدار غرفتها: ( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال ربّ ارجعني لعلّي أعملُ صالحاً فيما تركتُ كلا إنها كلمةٌ هو قائلها ومن ورائهم برزخُ إلى يوم يبعثون ) ووضعت في الجهة المقابلة الحكمة التي تقول : « تب قبل موتك بيوم ولما كنت لا تعلم متى تموت فكن تائباً على الدوام».
التعليقات (0)