السلام على الشيب الخضيب ، السلام على الخد التريب ، في ليلة العاشر من المحرم الحرام لعام 1441 هـ ، ليلة واقعة كربلاء و استشهاد الإمام الحسين عليه السلام و أصحابه ، ابتدأ سماحة الشيخ محمود طاهري مجلسه هذه الليلة تحت عنوان " وقفة تحليلة مع دعاء الإمام الحسين ( ع ) في يوم عاشوراء " - ذكر آفاق الدعاء الذي دعا به الإمام ( ع ) في يوم العاشر مع تحليل المضامين ، ابتدأ سماحته بمقطع من دعاء الإمام الحسين " اللَهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ ؛ وَأَنْتَ رَجَائِي فِيكُلِّ شِدَّةٍ ؛ وَأَنْتَ لِي فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِـي ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ " ، هذا المقطع المنقول عن الإمام الحسين وهو الدعاء الذي ذكره في صبيحة يوم العاشر ، المنهجية التي يتبعها الإمام في بيان الدعاء تارة تكون منهجية يراد من خلالها بيان ضعف الإنسان وحاجته لله عز وجل ، هناك أدعية تتكفل ببيان جانب العبودية ، و من لوازم العبودية الضعف و الحاجة و الإفتقار كما في دعاء كميل ، فنجد أن الإمام يبين حاجة الإنسان وضعفه ، ولو جئنا الى دعاء الحسين في يوم عرفة أيضًا من مصاديق المنهجية الأولى ببيان حاجة الإنسان لله .
هناك منهجية ثانية في الدعاء ، وهذه المنهجية قد تبين ضعف حاجة الإنسان ولكنها تهتم بتهذيب السلوك الإنساني كدعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين ( ع ) " ولا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزا ظاهرا إلا أحدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها. " فيها اشارة الى السلوكيات التي يحتاجها الإنسان في حياته الإجتماعية ، فيحتاج الى التوازن بين العزة الظاهرية و الذلة الباطنية ، يجب أن تحصل عملية الموازنة والا انقلب ذلك الإنسان لعدم وجود التوازن بين مقامين مهمين ، مقام الظاهر و مقام الباطن ، من سورة الأعراف " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ " حيث أن بلعم بن باعوراء كان عنده مقدار من الاسم الأعظم ، لكنه وظف تلك الطاقة في الدعاء على نبي الله موسى ، فكيف ان الذبيحة يسلخ جلدها ، فهذه كناية عن الأخذ بقوة .
المنهجية الثالثة هي التي تتكفل ببيان مقامات الأئمة عليهم السلام ، و لا ربط لها بجانب العبودية و جانب السير و السلوك ، و لا ربط لها بالسلوك الإجتماعي الأخلاقي ، بل غرضها بيان مقامات أهل البيت من قبيل الزيارة الجامعة الكبيرة ، وهي الزيارة المعتبرة و التي تعتبر من أفضل الزيارات لهم عليهم السلام ، نجد ان الإمام الهادي يبين مقاماتهم عليهم السلام " وَذَلَّ كُلُّ شَيْ لَكُمْ وَأَشْرَقَتِ الاَرْضُ بِنُورِكُمْ .. وَبِكُمْ ﴿يُمْسِكُ السَّمٰاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلّٰا بِإِذْنِهِ﴾ وَبِكُمْ يُنَفِّسُ الْهَمَّ وَيَكْشِفُ الضُّرَّ. " ، فنعتقد أن الأدعية من شأنها أن توصل الإنسان الى المقامات العالية و المعرفية ، وهذا الإيصال يحتاج الى قابلية ، من دعاء كميل " يا من اسمه دواء و ذكره شفاء " يفرّق الإمام بين مرحلتين ، مرحة الإسم وهي الدواء و مرحلة الذكر وهي الشفاء ، كأنما هناك أكثر من مقام ، مقام تنظيري و ثبوتي في حال قراءة الإنسان هذه الأدعية ، و لكن الدعاء لا يكون مؤثرًا الا اذا طبقه الإنسان و ووصل الى حالة اليقين و المعرفة ، فينقلب الحال الى الشفاء .
جُملة من الروايات تقول بأن الدعاء يردّ القضاء ، و الحال أن الإمام الحسين دعى في ليلة العاشر و اليوم العاشر ، فهل رُدّ عنه القضاء أم لا ؟ تأتي عندنا الروايات بان الله خيره في يوم العاشر بين القتل و الشهادة و بين النصر و اختار الإمام لقاء الله ، ولم يختر خيار الإنتصار ، وهنا نعرف ان مسألة التخيير بين الموت و الحياة من خصوصيات جملة من الأئمة كأمير المؤمنين وفقًا لبعض الروايات و الإمام الحسين ( ع ) و لرسول الله ( ص ) ، حيث أن الله خيّر الرسول الأعظم ، من سورة الضحى " وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ " اذن لم يطلب الحسين ان يُعطيه مقام الإنتصار " وإن لك في الجنة لدرجات لن تنالها إلا بالشهادة " الدعاء يحتاج الى عقيدة و اعتقاد ، لان الدعاء من مراتب العبودية ، من سورة النساء " ۞ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (100) " بعض العلماء - ممن عُرفوا بالآداب المعنوية و المعرفية - يقسمون الهجرة لله بأن لها نوعان ، الأول : أن يخرج الى الأماكن المقدسة وهذه هجرة ظاهرية ، الثاني : أن يخرج الإنسان من بيت الأنا و بيت الظلمة القلبية الى معرفة الله تعالى وهي الهجرة الأرقى .
نجد في دعاء عرفة مقطعين مهمين ، هناك خلاف في أنّ المقطع الأخير منسوب الى الإمام أو لا ، العلامة المجلسي يقول بأنه من مبتكرات الصوفية و ليس من قول الإمام الحسين ، " اللّهُمَّ اَنْتَ ثِقَتي في كُلِّ كَرْبٍ وَرَجائِي في كُلِّ شِدَّة " فلنعرف الإمام الحسين أولًا من خلال هذين المقطعين " الهي أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك ووحدوك، وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبوا سواك " المرحلة الأولى مرحلة اشراق الأنوار في القلب ، بحيث تكون هداية الهية لهذا الإنسان ، ولكنها لا تكفي لكمال الإنسان " وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك " وهذان الأمران تحققا في شخصية الإمام الحسين ( ع ) ، فهي شخصية متكاملة بلحاظ المعنى السلوكي و المعرفي ، " أشرقت الأنوار " قد تندرج في بُعد التولّي ، أي أن الإنسان يتولّى الحقيقة المطلقة و يتولّى من رشحه الله و هم الأئمة عليهم السلام ، ولكن التولي لوحده لا يكفي " وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبوا سواك "
زيارة عاشوراء حققت التولي و التبري ، " وَاَنْ يُثَبِّتَ لي عِنْدَكُمْ قَدَمَ صِدْق فِي الدُّنْيا وَالاْخِرَةِ " ، " اَللّـهُمَّ الْعَنْ اَوَّلَ ظالِم ظَلَمَ حَقَّ مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد وَآخِرَ تابِع لَهُ عَلى ذلِكَ، اَللّـهُمَّ الْعَنِ الْعِصابَةَ الَّتي جاهَدَتِ الْحُسَيْنَ (عليه السلام) وَشايَعَتْ وَبايَعَتْ وَتابَعَتْ عَلى قَتْلِهِ، اَللّـهُمَّ الْعَنْهُمْ جَميعاً" زيارة عاشوراء ترسخ المنهجية الثالثة وهي مقامات الأئمة ، و المقام الذي يحمله المعصوم لابد ان يحتوي على بعد التولي و التبري ، ولا حقيقة لأحدهما دون الآخر ، حينما تلى الإمام الحسين هذا المقطع الدعائي انطلق من حقيقة الدعاء ، فيرى الإمام آثار الإستجابة ، الدعاء ليس للثواب فقط و نيل الأجر ، الدعاء محطة للعبودية الحقيقية ،
يشير المفسرون في بعض الآيات القرآنية ، من سورة طه " وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ (18) " لم يكتفِ موسى بالإجابة المختصرة فقط العصا و لوازمها ، بل قال " وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ "، هذا من مقام الأنس مع الحبيب و التكلم مع الحبيب ، و الإنسان لا يمل من هذه الحالة ، الإطناب هو التطويل بفائدة ، الإسهاب هو التطويل من دون فائدة ، لذا سلوك الإمام الحسين هو السلوك الإطنابي مع الله . من سورة الفجر " يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) " وهذه علامة أن الإمام الحسين حقق أرقى أنواع العبودية مع الله سبحانه و تعالى ، وتقول الروايات بانها نزلت في الحسين و أصحاب الحسين .
التعليقات (0)