تواصلت المجالس الحسينية بحسينية الحاج أحمد بن خميس وذلك لليلة التاسعة من شهر المحرم الحرام لعام 1441 هـ - 2019 م بمشاركة الخطيب الشيخ محمود طاهري ، و تحت عنوان " مفارقات علمية بين المنبر التبليغي و المنبر الرثائي ، و قد بدأ سماحته بالآية 67 من سورة المائدة " ۞ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)" ، من الإشكاليات التي تُطرح حول المنبر الحسيني ، هل أن المنبر الحسيني لابد أن يكون متمحضًا في جانب الرثاء و الندبة أم لا بد أن يكون علميًا و تبليغيًا و ارشاديًا ، توجد عندنا فرضيتان : الفرضية الأولى : المنبر الحسيني في زماننا يجب أن يكون رثائيًا محضًا ، ولا داعي لإقحام جوانب التبليغ و الإرشاد ، و أصحاب هذه الفرضية يقولون ذلك لأنهم لا يستنكرون أهمية الإرشاد و لكن ليكن له مكانًا آخر كالمساجد و الملتقيات العلمية ، و المنبر لابد أن يكون مختصُا بالرثاء و النعي و الإبكاء و عندهم أدلة على ذلك ، الفرضية الثانية : خالفوا تلك الفرضية ، يجب أن يكون المنبر علميًا و مسألة الندبة و الإبكاء أمور انقضت ايامها ، و أن هناك فئة ادعت أن روايات البكاء آنية ووقتية ، و أصحاب هذه الفرضية يميلون الى تلك النظرة ، لكنهم اختلفوا فيما بينهم ، بعضهم يريد أن يغلب الرثاء ، و البعض الآخر يريد أن يغلّب الجانب التبليغي على الجانب الرثائي و البعض يريد أن يشرك المستمع الى جانب المُلقي .
أصحاب الفرضية الأولى يؤمنون بأن التبليغ امر مهم و لكن محورة هذا المنبر لغرضه الخاص و هو الإبكاء و الدليل على ذلك عدة شواهد ، وصية الإمام الباقر لابنه الصادق في الكافي : " العدة عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال لي أبي: يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا النوادب تندبني عشر سنين بمنى أيام منى " في هذه الوصية لم يذكر الإمام جانب الوعظ الإرشاد و التبليغ بل ذكر الندبة ، و قالوا في تعريف الندبة هي إظهار مآثر الفقيد بصورة تناسب الحزن ، فقد تشترك الندبة مع الحزن في بعض الجوانب ، فلو كان التبليغ و الإرشاد للمنبر الحسيني مهمًا ، فلم لم يأمر الإمام الصادق أن تقام له المؤتمرات العلمية و المعرفية بأرض منى ؟ ولو قرأنا مقولة العلامة الأميني صاحب كتاب الغدير صفحة 21 يشير الى معنى قريب " وفي تعيينه عليه السلام ظرف الندبة من الزمان والمكان لأنهما المجتمع الوحيد لزرافات المسلمين من أدنى البلاد وأقاصيها من كل فج عميق، وليس لهم مجتمع يضاهيه في الكثرة، دلالة واضحة على أن الغاية من ذلك إسماع الملأ الديني مآثر الفقيد " فقيد بيت الوحي " ومزاياه، حتى تنعطف عليه القلوب، وتحن إليه الأفئدة، ويكونوا على أمم من أمره، وبمقربة من اعتناق مذهبه، فيحدوهم ذلك بتكرار الندبة في كل سنة إلى الالتحاق به، والبخوع لحقه، والقول بإمامته، والتحلي بمكارم أخلاقه، والأخذ بتعالميه المنجية، وعلى هذا الأساس الديني القويم أسست المآتم والمواكب الحسينية، ليس إلا. "
كثير من المستبصرين حينما توجه اليهم السؤال في علة دخولهم الى مذهب أهل البيت ، يجيبون في تأملهم عن بعض الأدعية الواردة عن أهل البيت فيجدوا فيها جانبًا عطافيًا و معرفيًا ، و لم يدخلوا في مناظرات ، لأن هذا الكلام لا يصدر الى من الذوات المقدسة ، فينقل عن أحد المراجع في قم قديمًا أرسل نسخة من الصحيفة السجادية الى أحد علماء الأزهر ، فتعجب من الصياغات الدعائية فرد عليه : " وجدته دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوق " ، و الدعاء يعتمد على الجانب العاطفي ، فنرى أمير المؤمنين في دعاء كميل يركز على البعد الوجداني " أتُسَلِّطُ النّارَ عَلى وُجُوه خَرَّتْ لِعَظَمَتِكَ ساجِدَةً، وَعَلى اَلْسُن نَطَقَتْ بِتَوْحيدِكَ صادِقَةً " هذا ليس امر علمي محض بل أمر عاطفي ، الشاهد الثاني : حينما نأتي الى تعامل الأئمة مع الشعراء ، فلما يدخل الشاعر في محضر الإمام فلا يامره بتعرضه الى بحث أو وعظ أو إرشاد .
الرواية عن السيد البروجردي في جامع أحاديث الشيعة ج12 ص564 " أبي ره قال حدثنا سعد بن عبد الله عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن محمد بن إسماعيل عن صالح بن عقبة عن أبي هارون المكفوف قال قال (لي ثواب) أبو عبد الله عليه السلام يا أبا هارون أنشدني في الحسين عليه السلام (قال - كامل) فأنشدته (فبكى - كامل) قال فقال (لي - ثواب) أنشدني كما تنشدون يعني بالرقة قال فأنشدته: أمرر على جدث (جسد - خ ل ئل) الحسين فقل لأعظمه الزكية، قال فبكى ثم قال زدني (قال - كامل) فأنشدته القصيدة الأخرى قال فبكى وسمعت البكاء من خلف الستر قال فلما فرغت قال (لي - كامل) يا أبا هارون من انشد في الحسين عليه السلام شعرا فبكى وأبكى عشرة كتبت لهم (له - كامل) الجنة ومن انشد في الحسين شعرا فبكى وأبكى خمسة كتبت لهم (له - كامل) الجنة ومن انشد في الحسين عليه السلام شعرا فبكى وأبكى واحدا كتبت لهما الجنة ومن ذكر الحسين عليه السلام عنده فخرج من عينه - ٢ - (من الدموع - كامل) مقدار جناح ذبابة - ٣ - كان ثوابه على الله عز وجل ولم يرض له بدون الجنة." مسألة اللحن في العزاء والمنبر أمر مطلوب لأن الإيقاعات الحزينة من شأنها أن تترك أثرًا على القلب ، لكن لا ينبغي أن يكون اللحن متناسبًا مع مجالس الطرب و اللهو كما نرى مؤخرًا . فهذان شاهدان للفرضية الأولى
نقول الشاهد الأول -وان كان شاهدًا روائيًا- و لكنه لا يعد دليلًا لإلغاء الإرشاد و التبليغ من المنظومة المنبرية ، أولًا : أجواء منى مع انشغال الناس بالحج و الشعائر الإلهية ، فهل يناسب ذلك الجو القاء بحثًا علميًا و منتدى ثقافيًا ؟ فالمكان غير مهيأ ، فالمار لما يمر و يسمع الندبة يتأثر ، فلا يعتبر هذا اشكالًا على الغاء البُعد التبليغي و العلمي ، لأن الإمام يرى بأن أجواء منى لا يتناسب الا مع الشيء الذي لا مؤونة فيه ، فقصيدة و أبيات من شأنها أن تدخل الحزن في قلوبهم فيدخل بعد الإثارة في الأنفس ، و الشاهد الثاني : علة عدم قيام الشعراء و غيرهم بمجلس كامل ، أنه عادة يكون المجلس خاصًا بالمعصوم ، فهل عند المُلقي قابلية أن يزيد من علم الإمام ، فالإمام معصوم ، فالإمام هو من الذاكرين ، فكيف بمن هو أقل رتبة ؟ نعم في زماننا الأمر مختلف ، فالمستمع من شأنه أن يستفيد من المُلقي اذا كان من أهل التتبع و العلم و التحقيق و عنده مادة مُتقنة . يأتي الإمام بالشاعر لإثارة الأجواء التي تناسب المصيبة و الحزن . قيثار تساؤلًا بعدم استطاعة الإمام أن ينشد لنفسه ؟ فنجيب عادة إذا اُنشد للإنسان يكون تأثيره مختلفًا عن اٍنشاده لنفسه ، فلا يتنافي أن يستفيد المعصوم مع الغير كونه معصومًا .
أصحاب الفرضية الثانية يرون بان البكاء مؤقت ، من كتاب جامع أحاديث الشيعة ج12 للسيد البروجردي ص567 " البحار عن بعض مؤلفات المتأخرين قال حكى دعبل الخزاعي قال دخلت على سيدي ومولاي علي بن موسى الرضا عليه السلام في مثل هذه الأيام فرأيته جالسا جلسة الحزين الكئيب وأصحابه من حوله فلما رآني مقبلا قال مرحبا بك يا دعبل مرحبا بناصرنا بيده ولسانه ثم إنه وسع لي في مجلسه وأجلسني إلى جانبه ثم قال لي يا دعبل أحب ان تنشدني شعرا " ، "مرحبًا بناصرنا" نعرف بأن الإبكاء كان من مصاديق المواجهة كما كانوا يقولون في البكاء و أنه من مصاديق التحدّي مع السلطة آنذاك ، كانت مسألة إظهار مصائب اهل البيت عن طريق البعد السردي فكانوا يكتفون بالأشعار وفي زماننا لا يوجد أحد ، لأن عنوان النُصرة منتفي ، و الدليل الثاني آية النفر ، من سورة التوبة " ۞ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ " ، الإنذار هو المهم ، بعد أن يتفقه الخطيب فلابد أن يُنذر قومه ، وهل يحتاج الإنذار الى الرثاء و الندبة ؟ ، فما حاجة من لا التزام له أو دين بقراءة مصيبة الحسين لكي يتأثر بما لا يؤمن به ، ووظيفة المنبر هو الإرشاد و الإنذار سواءً كان مرتبطًا بالأدبيات و السلوكيات او بفقه الحلال و الحرام . وهذه نظرية خاطئة
يدّعي هذا الكلام البعض ممن هم موجودون في زماننا ، " اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ " و الروايات تقول : " الصلاة معراج المؤمن " أي بمجرد ان يُكبر الإنسان يدخل في عالم الملكوت و ينتهي من العروج حينما يصل الى التسليم ، فنسأل كم منا يعرج ؟ و كم منا صلاته لا تنهاه عن الفحشاء و المنكر ؟ فحين انتفاء ذلك لا نقول بأن الصلاة لا تنفع ، بل نقول بأن هذه الصلاة لابد أن ترقى بها ، فالصلاة هي محور في العبادة فالتفت الى الجوانب السلوكية ، ولما نصل الى البكاء يقولون بأنه لا فائدة له ، و هذا خطاب مسموم ، لان مسألة الندبة في حد ذاتها مطلوبة ، الإبكاء و الندبة في حد ذاته أمر مستحسن و الروايات تأمرنا بذلك ، فلابد من تقنين هذا الخطاب ، أيها الباكي للبكاء ثواب عظيم و لكن التفت الى السلوكيات الأخرى ، لا يكون خطابك احباطي للمجتمع كما في الصلاة . هذه النظرية أيضًا فرضية خاطئة كما الفرضية الأولى ، الفرضية الثالثة تقول بالجمع بين المنبر التبليغي و المنبر الرثائي .
من سورة النحل " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) " العدل امرٌ عدلي معرفي وهو اعطاء كل ذي حق حقه ، لكن الإحسان لا ربط له بالعقل ، فهو أمرٌ عاطفي يتناغم مع الروح و القلب ، كما أن العدل مطلوب ، فالبعد الوجداني مطلوب أيضًا ، صاحب الميزان يفسر " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " النحل - 125 " الحكمة هو الجانب العقلي و البرهاني و الإستدلالي ، و الموعظة هو الخطاب الذي يُرقق القلب ، من الممكن أن لا يكون الابكاء من مصاديق الموعظة و لكنه يلتقي معه في الهدف وهو ترقيق القلب ، خطاب الإمام الحسين لأصحابه ليلة العاشر هو خطابٌ عاطفي " أمّا بَعْدُ، فَإنّي لا أعْلَمُ أصْحاباً أوْفَى وَلا خَيْراً مِنْ أصْحابي " و الداعي ليس في مقام المجاملة و المبالغة ، البعض يعتقد بأن مفردة العاطفة تلازم الوهم و الكذب وهذا خطأ ، ليس كل خطاب عاطفي مكذوب ، فقد يكون أحيانًا ملامس للواقع و الحقيقة . العاطفة لها دور في ربط الإنسان بالجانب المعرفي ، الخطاب العلمي من شأنه أن يرشد النمط العاطفي . الخطاب العلمي موجه للبعد العاطفي ، لا نحتاج الى الخطاب دائمًا كما لا نحتاج الى الخطاب العاطفي دائمًا أيضًا .
التعليقات (0)