واصل سماحة الشيخ محمود طاهري سلسلة مجالسه الحسينية بحسينية الحاج أحمد بن خميس ، و ذلك في الليلة السادسة من شهر المحرم لعام 1441 هـ ، و تحت عنوان " إشكالية تفدية الفاضل للمفضول " - تفدية المعصوم لأصحاب الحسين بقوله " بأبي أنتم و أمي " ، وقفة معرفية علمية مع مقطع من زيارة أصحاب الحسين ( ع ) - حيث بدأ سماحته بالمقطع الشريف من زيارة الإمام الصادق (عليه السّلام) في الزيارة التي علّمها لصفوان الجمّال : (( السّلام عليكم يا أولياء الله وأحبّاءه ، السّلام عليكم يا أصفياء الله وأودّاءه ، السّلام عليكم يا أنصار دين الله ، السّلام عليكم يا أنصار رسول الله ، السّلام عليكم يا أنصار أمير المؤمنين ، السّلام عليكم يا أنصار فاطمة سيدة نساء العالمين ، السّلام عليكم يا أنصار أبي محمّد الحسن بن علي الزكي الناصح ، السّلام عليكم يا أنصار أبي عبد الله , بأبي أنتم واُمّي طبتم وطابت الأرض التي فيها دُفنتم ، وفزتم فوزاً عظيماً ، فيا ليتني كنت معكم فأفوز معكم ))
هذا المقطع الوارد في زيارة أصحاب الحسين يستدعي النظر و التأمل ، و قد بحث جُملة من شراح سيرة عاشوراء الفقرة المرتبطة بكلام الإمام الباقر ( ع ) " بأبي أنت وأمي لقد عظم مصابي بك " ، هنا صار الكلام بين الأعلام و المحققين حول مفردة التفدية ، وهذه من مصاديق التفدية و التضحية ، و هذه الباء ، باء التفدية و فعلها يُحذف عادة ، فيكون المعنى أفديك بأبي و أمي ، الإشكالية في صحة أن يُضحي الفاضل بنفسه من أجل المفضول ، الإمام الصادق - بلا شك - أفضل مقامًا و رتبةً من أصحاب الإمام الحسين ، و تفدية الفاضل للمفضول ، قد يُدرك العقل بأنها قبيحة ، لأن لازمها تقديم المفضول على الفاضل ، اذا التزمنا بمصطلح التفدية نقع في هذه الإشكالية ، هذا الإستخدام - وان استخدمه العرب كثيرًا - حتى على لسان النبي " فداكِ أبوكِ " لفاطمة الزهراء ( ع ) و لكن بعض الأحيان تكون عكسية بأن يكون المُفدِّي أقل رتبة من المُفدَّى .
من سورة الصافات " إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ " المشهور على الألسنة بأن المُفدّي هو الإمام الحسين ، فامتنع الذبح عن اسماعيل بفضل الإمام الحسين ، فنحن نعتقد بأن الأئمة أفضل من الأنبياء سوى الخاتم محمد ( ص ) ، وبعد ذلك لابد أن نصل الى نتيجة مهمة تكمن حينما يستخدم الإمام الحسين ( ع ) مفردة التضحية لأخيه العباس " اركب بنفسي أنت يا أخي حتّى تلقاهم وتسألهم عمّا جاءهم ، وما الذي يريدون ؟ " ، ولم يذكر " بأبي و أمي " . المحور الأول : التفدية تعني التضحية وهو أن يُقدِّم الإنسان ما يملك من أجل طرف آخر ، و قد يكون مصداقها الأكمل تقديم الروح وليس حصرًا ، الفداء فيه عامل الموت و القتل ، والتفدية الأخلاقية يُلحظ فيها الجانب الإنساني و الكمالي المتمثل في الإنسان حينما يتنازل عن شيء في بدنه ( تضحية ) و ليست ( تفدية ) ، كل تفدية تضحية ولكن ليست كل تضحية تفدية . المحور الثاني : مصاديق التفدية المتنوعة ، تارة نلحظ التفدية بلحاظ المُفدِّي و المُفدَّى ، تارة يكون المُفدِّي هو الأفضل ، والمُفدَّى هو الفاضل أي الأقل رتبة ، و تارة يكون المُفدِّي هو الأقل رتبة و المُفدَّى هو الأكثر رتبة ، و تارة تكون التفدية بين متساويين ، المصداق الأول وهي تفدية الإمام الصادق لأصحاب الحسين ، لاشك أن مقام الصادق أفضل من أصحاب الحسين .
هناك مثال آخر ذكره صاحب البحار وفيها مثالان ، تفدية الفاضل للمفضول و تفدية المفضول للفاضل ، من كتاب بحار الانوار للعلامة المجلسي - الجزء الثاني و الأربعون - ص 105 " لما كنا في حرب صفين دعا علي عليه السلام ابنه محمد بن الحنفية وقال له: يا بني شد على عسكر معاوية فحمل على الميمنة حتى كشفهم، ثم رجع إلى أبيه مجروحا فقال: يا أبتاه العطش العطش، فسقاه جرعة من الماء ثم صب الباقي بين درعه وجلده، فوالله لقد رأيت علق الدم يخرج من حلق درعه، فأمهله ساعة ثم قال له: يا بني شد على الميسرة، فحمل على ميسرة عسكر معاوية فكشفهم، ثم رجع وبه جراحات وهو يقول: الماء الماء يا أباه، فسقاه جرعة من الماء وصب باقيه بين درعه وجلده، ثم قال: يا بني شد على القلب، فحمل عليهم وقتل منهم فرسانا، ثم رجع إلى أبيه وهو يبكي، وقد أثقلته الجراح، فقام إليه أبوه وقبل ما بين عينيه (٣) وقال له: فداك أبوك فقد سررتني والله يا بني بجهادك هذا بين يدي، فما يبكيك أفرحا أم جزعا؟ فقال: يا أبت كيف لا أبكي وقد عرضتني للموت ثلاث مرات فسلمني الله، وها أنا مجروح كما ترى، وكلما رجعت إليك لتمهلني عن الحرب ساعة ما أمهلتني، وهذان أخواي الحسن والحسين ما تأمرهما بشئ من الحرب، فقام إليه أمير المؤمنين وقبل وجهه وقال له: يا بني أنت ابني وهذان ابنا رسول الله صلى الله عليه وآله أفلا أصونهما عن القتل؟ فقال: بلى يا أبتاه جعلني الله فداك وفداهما من كل سوء. "
اذا أردنا أن نذكر مثالًا للتفدية بين المتساويين ، يكون البحث نظريًا ، اذا أردنا أن نقول بأن كلام الباقر ( ع ) " بأبي أنت و أمي " ، بعض العلماء كالميرزا النائيني عندما يُسأل بين الأفضلية بين الأئمة فيجيب أنهم في رتبة واحدة ، و الشاهد على ذلك ما جاء في الزيارة في الجامعة الكبيرة " وَأَنَّ أَرْواحَكُمْ وَنُورَكُمْ وَطِينَتَكُمْ وَاحِدَةٌ طابَتْ وَطَهُرَتْ بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ " تفدية الباقر لجده الحسين من مصاديق التفدية بين المتساويين ، لو التزمنا بالنظريات الأخرى بأن الكمال بين الأئمة أمرٌ حاصل ، فبعد علي الأفضل هم أصحاب الكساء ، يعني أن الحسين أفضل من الإمام الباقر فتكون التفدية من مصاديق تفضيل المفضول للفاضل ، التفدية كمصطلح ومفهوم أمر مستخدم في روائنا التراثي وذلك بلحاظ عناصر التفدية أي عنصر المُفدِّي و المُفدَّى ، وسُئل أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام " عن الرجل يقول لابنه أو لابنته: بأبي أنت وأمي أو بأبوي أنت، أترى بذلك بأسا؟ فقال: إن كان أبواه حيين فأرى ذلك عقوقا، وإن كان قد ماتا فلا بأس ".
في قول الإمام الصادق " بأبي أنتم و امي " تقديم الإمام على نفسه يلزم منه أن يتقدم المفضول على الفاضل وهذا مقبوح عقلًا ، اللحاظ الآخر للتفدية ، حيث تارة تكون فعلية أي أن المفدي ضحى من أجل المفدى ، و مصداق ذلك أصحاب الإمام الحسين وقد حققوا ذلك المقام العظيم فعلًا و قُتلوا ، وقول الإمام الصادق فلا معنى لهذه التفدية بعد ان انتهت واقعة كربلاء وتصرّم الزمان الذي وقع فيه الحرب ، فهل هذه تفدية مجازية ؟ بتعبير علمي السالبة بانتفاء الموضوع ( وجود الحرب ) ، و تارة تكون التفدية شأنية و لكن فيها قابلية الوقوع ، حينما يقول القائل " بأبي أنت و أمي يا صاحب الزمان " ، المشروع الذي سيقوم به الإمام ( عج ) لم يتحقق بعد ، فبامكان هذا الإنسان أن يكون عنصرًا في ذلك ، اذن تارة التفدية تكون واقعية و تارة مجازية و تارة شأنية .
في تفدية الحسين للنبي ابراهيم " وفديناه بذبح عظيم " ، أي بالكبش ، اذا قلنا بالتفسير الظاهري فيلزم من تلك التفدية تفدية المفضول للفاضل ، وان قلنا بأن التفدية حصلت بالحسين ، فنقع في اشكالية تفدية الفاضل للمفضول ، المُفدِّي هو جزع ابراهيم على الحسين ، نقول بأن المفدي هو ابراهيم من خلال جزعه على مصيبة الحسين ، المُفدّى هو النبي اسماعيل ، فهل جزع ابراهيم على الحسين - وليس ذاته - أفضل من ابراهيم - ؟ ، في مقام الإجابة على ذلك مفردة " تلقين النفس " نجد بأن القرآن يوضح مثالًا مهمًا " وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً " سواء ذلك التلقين له منشأ معتبرًا أو كان وهمًا ، التصور الذهني حالة مشتركة بين الظمآن و غيره ، لكن الظمآن هو الذي يُرتّب الأثر على ذلك و غيره لا ، فهو صاحب الحاجة ، الإمام الصادق يريد ان يُنظّر بأن حركة الحسين ( ع ) و حركة أصحاب الحسين لابد أن تكون في وجدان الناس قاطبة ، بالتالي لو كنت مع الحسين فهل ستفدي بنفسك على الحسين؟
مسألة تلقين النفس ، وبالتالي الإمام لو كان موجودًا لفدّى بروحه من أجله ، و هذا من قبيل التمنّي " اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا بْنَ رَسُولِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا بْنَ اَميرِ الْمُؤْمِنينَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا اَبا عَبْدِاللهِ، ... وَاَشْهَدُ اَنَّ قاتِلَكَ فِي النّارِ اَدينُ اللهَ بِالْبَراءَةِ مِمَّنْ قَتَلَكَ وَمِمَّنْ قاتَلَكَ وَشايَعَ عَلَيْكَ، وَمِمَّنْ جَمَعَ عَلَيْكَ وَمِمَّنْ سَمِعَ صَوْتَكَ وَلَمْ يُعِنْكَ، يا لَيْتَني كُنْتُ مَعَكُمْ فَاَفُوزَ فَوْزاً عَظيماً. " وهذا تطبيق للتفدية الدعائية ، لابدّ أن يعتبر الإنسان أن هذه المقولة من المقولات الإمتحانية و ليست من المقولات التشريفية و الإنتمائية ، يحتاج الإنسان أن يمتحن نفسه ليعرف نفسه أعلى خطى الحسين هو أم لا ؟ البعض يرى توجيهًا آخر فالإمام الصادق لا يصدق بالقصد الإبتدائي هم الأصحاب بل الحسين ، لأن عظمة الأصحاب جاءت بانتمائهم للحسين ، و بالتالي تفدية الإمام للحسين لا لأصحابه ، الإمام الصادق لا يريد أن يجري مقابلة ومقارنة بين ذاته ( الذات النورانية ) و بين أصحاب الحسين ، فلا يُلحظ بالتفدية بالذات بما هو ذات بل العمل . ولذى مقام أصحاب الحسين مقام عظيم .
التعليقات (0)