واصل سماحة الشيخ محمود طاهري سلسلة مجالسه الحسينية بحسينية الحاج احمد بن خميس و ذلك لليلة الثانية من شهر محرم الحرام لعام 1441 هـ ، أكمل سماحته موضوع البارحة بحديث عن الإمام الرضا عليه السلام " إِنْ بَكَيْتَ عَلَى الْحُسَيْنِ ( عليه السَّلام ) حَتَّى تَصِيرَ دُمُوعُكَ عَلَى خَدَّيْكَ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ كُلَّ ذَنْبٍ أَذْنَبْتَهُ، صَغِيراً كَانَ أَوْ كَبِيراً، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيراً. " ، جملة من الشبهات وجهت لروايات البكاء عليه عليه السلام ذكرناها و قد ردَدنا عليها يوم الأمس ، و نضيف اليها ان الروايات القطعية الأخذ بلوازمها واجب ، و يأتي الإشكال على الروايات التي لم تصلنا بطرق معتبرة كصلاة الرغائب المعروفة ، روايات هذه الصلاة ليست موجودة في الكتب المعتبرة كالكتب الأربعة ، هنا يتمكن الباحث أن يستبعد تلك الروايات حيث جائت بمصادر محدودة و ليس كمثل روايات البكاء وهذا فرق كبير .
الشبهة الثانية تقول أن روايات البكاء صادرة عن الأئمة و لكن لا نتمكن من الأخذ بها في زماننا وهي روايات آنية و توقيتية حيث صدرت في عصر الأئمة ( عليهم السلام ) وتصلح فقط لذلك الزمان وليس في زماننا ، وهذه شبهة باطلة وضعيفة على عدة وجوه ، الوجه الأول : الأحكام تنقسم الى قسمين ، الأول : أحكام تعبدية شرعها الشارع لمصلحة و هي الأحكام التي تتقوّم بقصد القربة لله ، الثاني : أحكام توصلية و هي التي لا يشترط بها قصد القُربة كانقاذ الغريق و ازالة النجاسة من المسجد ، البكاء من جملة المستحبات و ليس من السلوكيات الواجبة ، و لكن البكاء على الإمام الحسين ( عليه السلام ) يندرج ضمن البُعد التعبدي ، و يثاب الإنسان على ذلك ، فلو بكى الباكي على الحسين من دون قصد التعبد فبكائه باطل ، الأمر التعبدي له عدة لحاظات ، تارة يكون احياءٌ للقلب ، فالصلاة معراج المؤمن ، صفة المعراجية حقيقية روحية و قلبية ، نقول بأنما كيفما كانت الصلاة فيها مجهود أكبر في السابق و لا توجد الآن ، ونقول أن الكلام هو الكلام في البكاء ، الأمور التعبدي فيها خصوصية الشمولية ، و تصلح للإنطباق في زمن صدور الرواية الى ما بعد صدور الرواية حيث فيها احياء القلب و الروح ، وهذا لا يرتبط بزمن الأئمة ( عليهم السلام ) ، اذا افترضنا ان البكاء كان من مصاديق الاعلام و المواجهة لكن لا يكون من الامور الحصرية ، فهو ثواب و مواساة و اعلام ، فاذا انتفت خصوصية بقت الخصوصيات الأخرى .
الوجه الثاني : بعض النصوص الواردة في زيارة الحسين عليه السلام تستكشف أن كل حقيقة ترتبط بالإمام المعصوم لابد ان ينطبع فيها طابع الدوام و الإستمرار ، "اَشْهَدُ اَنَّ دَمَكَ سَكَنَ فِي الْخُلْدِ وَاقْشَعَرَّتْ لَهُ اَظِلَّةُ الْعَرْشِ " ، وهذا تعبير كنائي أي أن حركة الإمام الحسين خالدة و كل شيء يرتبط به لابد أن يتصف بصفة الخلود و الإستمرار لأن فيه تذكار لحقيقة الحسين ، و لا ريب أن البكاء هو اظهار لاسم الإمام ، في زيارة النصف من شعبان " اَشْهَدُ اَنَّكَ قُتِلْتَ وَلَمْ تَمُتْ بَلْ بِرَجاءِ حَياتِكَ حَيِيَتْ قُلُوبُ شيعَتِكَ، وَبِضِياءِ نُورِكَ اهْتَدَى الطّالِبُونَ اِلَيْكَ " ، هناك تشريعات معينة ، أعمل الإمام ولايته لتوقيتها ، حيث في زمن الإمام الكاظم عندنا روايات التحليل ، أي لمصلحة من المصالح أسقط الخمس عن الشيعة ، وقال " هو حلال لشيعتنا " بالمنظار العلمي ، الأمر التعبدي الذي فيه جانب الإحياء الروحي يُلحظ فيه الإستمرار ، ففي الصلاة عنصر الإحياء مأخوذ في الصلاة ، لكن الخمس كعبادة مالية غرضها التوسعة على فقراء لمسلمين و ايجاد مصادر دخل ، فوقت الإمام ذلك التكليف ، ولكن روايات التحليل لا تنطبق على زماننا الحالي ، مثال آخر : يشهد لذلك معتبر عليّ بن مهزيار قال : « قلت : لأبي جعفر (عليه السلام) : جُعلت فداك ، زيارة الرضا (عليه السلام) أفضل أم زيارة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) ؟ فقال : زيارة أبي أفضل ، وذلك أنّ أبا عبد الله (عليه السلام) يزوره كلّ الناس ، وأبي لا يزوره إلاّ الخواص من الشيعة » ، في زماننا الآن كل الناس يزورون الرضا ولا يمكننا التمسك باطلاق الرواية حيث تقتضي المصلحة أن يبين الإمام أن زيارة الرضا أفضل من زيارة الحسين ( ع ) .
مسألة البكاء على الحسين من المسائل الدائمية ، في كل زمان هذا البكاء يفعل شيئًا عظيمًا و يصنع انسانًا عظيمًا ، البكاء ليس سهلًا كما يُتصوّر ، وقد تجد ذلك بوجدانك ، البكاء كسلوك ظاهري يعتمد على القلب ، النراقي في كتابه جامع السعادات يقول في رواية نبوية غير معتبرة " قد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب " أي من ناحية أخلاقية ، إذا كان بيت القلب مشحونا بالصفات الخبيثة التي هي كلاب نابحة لم تدخل فيه الملائكة القادسة ، أي النور الإلهي ، و البكاء على الحسين من مصاديق النور ويحط الذنب العظيم ، مسألة البكاء على الحسين من الأمور المركزية في شعائر الحسين عليه السلام ، متى ما اثبتنا صحة الروايات ، سنثبت بالملازمة مشروعية اقامة المآتم ، لا تستح من البكاء ، فستعلم حاجتك للبكاء في تلك العوالم ، هناك مقطع ينقل عن الشيخ بهجت يقول بأنه لا يُشترى من الإنسان شيء يوم القيامة الا الدمعة عل الحسين ، فإنها تُشترى بأغلى الأثمان ، الأعمال ستنفعك - باذن الله - لكن البكاء على الحسين تطفئ نارًا ، فهذه الشبهة شبهة واهية ، فروايات البكاء روايات مطلقة ، و صالحة في زماننا .
من ضمن الإشكاليات و الجدليات أن العلامة الطهراني نقل عن أستاذه الحداد أنه كان يفرح في يوم العاشر و يتهلهل فرحًا و لا يبكي على الحسين كما ذكرنا يوم الأمس ، قد يُقال أن هذا السلوك كان سلوكًا خاصًا و ليس عامًا بمرأى الناس ، لعل لديه قناعة عرفانية ، أي أن فعله لا يدخل في أمر التهتك - و العياذ بالله - ، الأمر الآخر ، يقول الإمام الرضا : " كَانَ أَبِي إِذَا دَخَلَ شَهْرُ الْمُحَرَّمِ لَا يُرَى ضَاحِكاً ، وَ كَانَتِ الْكَآبَةُ تَغْلِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَمْضِيَ مِنْهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْعَاشِرِ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ مُصِيبَتِهِ وَ حُزْنِهِ وَ بُكَائِهِ ، وَ يَقُولُ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الْحُسَيْنُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ " ، فما الفرق بين الضحك و التبسم ، " فتبسم ضاحكًا من قولها " ، صاحب الميزان يقول بأن تبسمه كان مقدمة لضحكه ، الضحك حالة شعورية فيها صوت ، نفهم من الرواية ان ابداء الحزن تبدأ من ليلة الحادي من الشهر ، الأستاذ الوحيد لا ينزع السواد شهرين كاملين ، اللون الأسود من شانه الإنقباض ، ولكن لبسه من أجل الحسين لا يوجد ذلك ، لبس السواد في الصلاة مكروه و يستثنى من ذلك لمصيبة الإمام الحسين فيكون مستحبًا ، و نبين أننا أهل البيت نعيش في حزن ، الدين كله قائم على المناسك و الشعائر ، لا توجد عندنا طقوس فهي تستخدم في الديانة النصرانية ، من سورة الحج : " ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ " ، و من سورة البقرة " إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ " . يجب ان يتأمل الإنسان في حقيقة " يا ليتنا كنا معكم " . فتحتاج الى ضوابط علمية وليس ضوابط ارتجالية و شعارية .
التعليقات (0)