إن كثيراً من وسائل الإعلام العربية والعالمية التي استهوتها حمى الأزمة الأخيرة الناشبة بين مجلس صيانة الدستور وأطراف عديدة في الأجهزة التنفيذية وبعض قوى المجتمع المدني في إيران حول رفض أهليّة أكثر من ألفي مُترشّح للانتخابات التشريعية السابعة قد اتسمت بنوع من " إساءة قراءة " وبمسحة انتقائية مُفرطة الأمر الذي جعلها مُصابة في رشدها بدوامة صمت راديكالية أفقدتها كثيراً من "حصافة" الرأي وبمساس واضح بأخلاقيات المهنة، خصوصاً وأن البعض قد احتفى باستحالة حلٍّ لما يجري، من دون أن يسترشد بالمعطيات الموضوعية التي تفضيه إلى تحليل موزون يُحاكي ما هو محسوس وكائن، فاستعصت عليه إمكانية تحييده للإنتماء الذوقي والغاية السياسية فحاق به خيال نسجه هو لنفسه فرأى ما حدث انقلاب أبيض على قوى الإصلاح، ثم رآه "بتبسيط فاقع" صراع أزلي بين المحافظين والإصلاحيين، وهي الاسطوانة التي باتت تشبه سوق الصفَّارين في بغداد لا نسمع ونرى ولا نقرأ إلى صداها المُمِل، فإيران التي يحكمها نظام سياسي أعقد من أي نظام قريب أو بعيد قديم أو حديث ويحوطها مجتمع تُكونه وتكتسيه وتلفّه السياسة من رأسه حتى أخمص قدميه لا يُمكن أبداً أن يُقرأ من زاوية واحدة أو من خلال قصاصات أخبار متناثرة من دون أن يجمعها تسلسل تاريخي بظروف مقام متّسِقة، لذا فقد آثرت أن أقوم " بمحاولة " قراءة لما جرى لإرهاصات أزمة الأهلية وظروف الانتخابات النيابية التي جرت في العشرين من فبراير المنصرف :
(1) أعتقد أن الذي حدث في الجمهورية الإسلامية من قيام مجلس صيانة الدستور برفض عدد غير قليل من مترشحي التيار الموسوم بالإصلاحي ( وبعض المحسوبين على اليمين والمستقلين ) لم يكن سوى نزعة متنامية بدأ النظام الإسلامي يتحين فرصة مجيء سوانح الأيام للقيام بها وهي إجراء عملية جراحية ( تجميلية لكنها ضرورية ) في التيار (الإصلاحي) ذلك أنه بات أكثر اقتناعاً من أي وقت مضى، بأن هذا التيار وخصوصاً المتطرفين من جبهة المشاركة ومنظمة مجاهدي الثورة الإسلامية ومكتب تعزيز الوحدة قد بدأوا في التجاسر وبدون ضوابط على ما لم يسبق التفكير فيه من مقدسات الدولة آخذين بالضغط على العبارات والكلمات في صحفهم اليومية التي تُثير حساسية الحكم وقواه الارتكازية، كما سعت هذه التيارات السياسية بتعمد لأن تكون المصدر الرئيس للكثير مما ثار على الساحة السياسية الإيرانية في السنوات الست الماضية من غبار ورمال وحجارة ملأت الأجواء وحجبت الرؤية، فالنشاط السياسي المشبوه الذي قامت به تلك القوى لم يعد يُحتمل من قِبَل القيِّميين من رجال الثورة الأوائل، وفيما يلي نماذج منه (أ) ترحيب جبهة المشاركة بقيام واشنطن بفتح عدد من المواقع الإلكترونية الناطقة بالفارسية بحجة تشجيع الديمقراطية في إيران، علماً بأن المسؤول الأمريكي الذي صرّح لرويتر بذلك قال : أن هذه المواقع ستقدم للناس التعليمات اللازمة للقيام بتحركات سياسية في إيران (ب) قيام جبهة المشاركة بتشكيل لجنة خاصة لتوجيه حوادث التاسع من تموز يوليو من العام الماضي في الحي الجامعي بطهران بعضوية كل من مصطفى تاج زادة ورجب علي مزروعي وفاطمة حقيقت جو (ج) قيام بهزاد نبوي وهو من زعماء منظمة مجاهدي الثورة الإسلامية بزيارة سرية إلى تركيا حيث التقى هناك زلماي خليل زاد المبعوث الأمريكي لأفغانستان وتباحث معه حول مشروع التمرد المدني والرقابة الاستصوابية على الانتخابات (د) حضور الدكتور عبد الكريم سروش ومحسن كديفر وهما من منظري جبهة المشاركة احتفالاً أقامته السفارة الأمريكية في بولندا لاستلام جائزتين نيابة عن الصحفي أكبر كنجي والدكتور هاشم آغاجري (هـ) قيام مكتب تعزيز الوحدة بتوجيه رسالة مفتوحة لمنسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوربي خافير سولانا تنتقد فيها " الأداء والمواقف لبعض الأعضاء بالاتحاد الأوربي تجاه إيران " طالبة منها " عدم التضحية بالديمقراطية وحقوق الإنسان في سبيل مصالح قصيرة الأمد " وهو ما اعتبر مؤشر على تأييد التنظيم المذكور لدور الضغوط الدولية لتغيير نهج الجمهورية الإسلامية في الميادين الداخلية، بالإضافة إلى كل ذلك فإن أزمة الحي الجامعي ومؤتمر برلين وتعديل قانون المطبوعات ومشروع التمرد المدني والإخلال بالخط الفاصل بين المواليين وغير المواليين ودبلوماسية السبيل الثاني والضرب من الأسفل والضغط في الأعلى وعصابة مفبركي الأشرطة هي كلها شطحات قد لا تُغتفر للإصلاحيين .
وأمام ذلك السلوك الاسفزازي لبعض القوى المتطرفة في جبهة الثاني من خرداد والذي قد يُفَسّر بأنه يؤثر بشكل ما على الأمن القومي الإيراني، فقد اعتقد النظام الإسلامي بأن عمليته الجراحية تلك باتت أوجب من أي وقت آخر وأنه إذا لم يقم بذلك وتمكنت جذور تلك التنظيمات المتطرفة في العمق الاجتماعي والسياسي فمعنى هذا أن القطع أو الخلع لها في المستقبل يصبح عملياً تصدياً لواحدة من ظواهر الطبيعة ذاتها وهذا صعب .
(2) حاول التيار (الإصلاحي) إحراج المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإمام الخامنئي بتسويقه لمقولة أن مجلس صيانة الدستور لم يقم بتنفيذ توجيهات القائد بعد اجتماعه به، وكان الغرض السياسي من ذلك هو دفع المرشد عن طريق وضع الكلمات في فمه للتدخل والاستقواء به من أجل تمرير أكبر عدد ممكن من المترشحين المطعون في أهليتهم، رغم أنه تدخل لحلحلة القضية ثلاث مرات، وبعد فشل تلك المراهنة كلّل متطرفوا التيار الإصلاحي خطتهم الفاشلة تلك بتوجيه رسالة شديدة اللهجة إلى المرشد اتهموه فيها بأنه تواطأ سراً مع مجلس صيانة الدستور لرفض ترشيحات جبهة المشاركة ومنظمة مجاهدي الثورة الإسلامية، ونحن عندما نرجع إلى ما قاله الإمام الخامنئي في اجتماعه بأعضاء مجلس صيانة الدستور بعد اشتداد أزمة رفض الأهليات نجد أنه قال بالحرف " الذين تقدموا مُحرَزِين ما لم يثبت عكس ذلك، فإذا ما ثبت خلافه فلا تسمعوا لقول أي أحد واعملوا بما يثبت، بطبيعة الحال إن الذي ثبت عدم إحراز أهليته بعد أن كانت محرزة شأناً آخر فهو ليس موضع كلامنا ولكن ما لم يثبت عدم إحراز الأهلية فإن الموضع موضع استصحاب الأهلية، فمن كان صالحاً في السابق استصحبوا أهليته الآن واستصحبوا الأهلية الآن أيضاً حيث هنالك موضع للشك، وهذا ما يخص النواب الذين أحرزت أهليتهم في الدورة السابقة، أما الذين كانوا في الدورات السابقة فلن يكون ثمة موضع للإستصحاب إذا ما كانت أهليتهم قد رُفضت في الدورة السابقة، والذين كانوا في الدورات السابقة ولم يرشحوا بعدها فإن هذا الكلام يجري بحقهم أيضاً (انتهي) والإشارة هنا واضحة ولا تحتاج إلى قراءة من نوع آخر أو الاستعانة بخبراء القانون وعلم اللغة فالمرشد أكّد أن الذين تقدموا للترشيح يُعتَبَرون مُحرَزين للأهلية إلاّ إذا ثبت خلاف ذلك، وإلاّ فإن عليكم أن تستصحبوا أهليته السابقة حتى مع وجود الشك، وبالتالي فإن الذين كانوا يُنادون بتطبيق توصيات وأوامر المرشد لم يكن لديهم شك بهذا التفسير إلاّ أنهم أرادوا أن يُحرجوا الرجل وزجّه للتدخل لصالحهم .
(3) أن رفض الأهلية التي قام بها مجلس صيانة الدستور لم تقتصر فقط على التيار (الإصلاحي) بل طالت أيضاً أكثر من 381 شخص من المحسوبين على التيار المحافظ وبالأخص من أقصى اليمين، كما أن مجلس الصيانة وبعد تدخل المرشد وتشكيل اللجنة الوزارية الرباعية وإيكال دراسة الملفات لوزارة الأمن أعيد تأييد أهلية 1206 أشخاص من المرفوضين السواد الأعظم منهم من التيار (الإصلاحي) إلاّ أنهم أصروا على مواصلة اعتصامهم في البرلمان ولم ينحو منحى باقي الأحزاب الإصلاحية الثمانية في جبهة الثاني من خرداد الأكثر تعقلاً، وهو الأمر الذي يُذكرني بمقولة لأحد السياسيين الإيرانيين عندما قال " أن مجلس صيانة الدستور رفض أكثر من 814 من أصل 824 ممن تقدوا للترشّح لانتخابات الرئاسة الثامنة في 2001 أي تمّت الموافقة على عشرة منهم فقط إلاّ أننا لم نرى احتجاجاً من هؤلاء السادة المعتصمين لسبب واحد وهو أن مرشحهم كان من ضمن العشرة المؤيَّدة أهليتهم، وبالتالي فإن تصوير الأمر وكأنه حرصٌ منهم على الإصلاحات والديمقراطية هم أمر لا يحظى بمصداقية أبداً !!
(4) أظهرت الأزمة الأخير حجم اللاتوافق الذي يعشه الإصلاحيون في ائتلافهم المُسمّى جبهة الثاني من خرداد ( الذي يضم 18 تنظيماً ) وفتور فاقع في نسيج علاقاتهم البينية، ففي الوقت الذي يعتصم فيه نواب من جبهة المشاركة ومنظمة مجاهدي الثورة الإسلامية نرى أن مؤسس حزب كوادر البناء ورئيس الدائرة السياسية فيه محمد هاشمي يُصرّح لمراسل (أرنا) بشأن استقالات النواب الإصلاحيين " أن هذه الاستقالات وهذا البيان وأقوال السيد ميردامادي قد أثارت الكثير من الأسئلة في أذهان المحللين والمخلصين للثورة ولطريق الإمام الراحل، وإذا كانت هذه الخطوة مُخطط لها مُسبقاً ولا تعرف نيابتهم عن أي قطاع من الشعب فهل يرضى ناخبوهم بذلك ؟ لا أعتقد ذلك لأن الناخبين لم يُقدموا لهم أقل دعم في هذه التظاهرة، وأن هذه الخطوة هي ضرر للبلاد ولن نشاركها أو نؤيدها " وعندما سُئِل ما سيفعل حزبكم لو عومل كما عُومل حزب جبهة المشاركة قال " أن عدداً كبيراً من مرشحي حزب الكوادر رفضت أهليتهم لكن الحزب دعاهم إلى أن يتقدموا حسب القانون بطلبات إعادة النظر في أهليتهم " وهنا يجب أن نشير أن مجلس صيانة الدستور وبعد إعادة الفرز قد أيَّد 500 شخص من حزب كوادر البناء الإصلاحي، وفي صحيفة (رسالت) قال محمد رضائي عضو تكتل الثاني من خرداد في مجلس الشورى الإسلامي " أن جبهة المشاركة باتت على حافة السقوط والانهيار، وأن هناك محاولات دائمة من قِبَلِها لاحتكار السلطة، وأن ثمة أشخاص فيها يرون أن حياتهم تقوم على فكرة المعارضة فصار شعار معارضتي هو كل هدفهم دون أن يكلفوا أنفسهم عناء الدفاع الحقيقي عن الإصلاح، وباتوا يهدفون إلى استبعاد جميع القوى غير المتوافقة معهم في جميع المدن عن طريق الأمناء الحزبيين في المحافظات " وفي تصريح آخر لأحد النواب والذي هو أيضاً عضو في الثاني من خرداد وصف فيه السلوك السياسي لمحمد رضا خاتمي زعيم جبهة المشاركة بأنه " أدى إلى طرد حتى الذين كانوا قبل الثاني من خرداد إصلاحيين من الميدان السياسي وأن استبداده أدى إلى ضرب الإصلاحات من الجذور " وفي الأزمة الأخير رأينا بكل جلاء أنه وفي الوقت الذي تُعلن فيه عشرة أحزاب في جبهة الثاني من خرداد من بينها جبهة المشاركة ومنظمة مجاهدي الثورة الإسلامية عن مقاطعتها للانتخابات النيابية السابعة تُعلن ثمانية أحزاب إصلاحية أيضاً ومن نفس التكتل عن مشاركتها في الانتخابات من بينها مُجمّع علماء الدين المناضلين (روحانيون مبارز) وحزب كوادر البناء !! .
(5) أظهرت الأزمة الأخير أن الشارع الإيراني بدأ فعلاً في التخلّص من المزايدين والمتطرفين من الأجنحة السياسية، الذين أدخلوه في معترك حرب إعلامية ونفسية أرهقته بشدة ومارسوا سياسة التسقيط والكيل، ضد بعضهم البعض من دون أن يتلتفوتوا للتنمية الاقتصادية وتحسين معدلات النمو والحد من البطالة وبالتالي فإن الساحة السياسية الإيرانية لفظت أؤلئك لصالح أشخاص لم تجتهد في البحث عن هوينهم السياسية أو الحزبية بل اكتفت بمعرفتهم تكنوقراطياً .
(6) أظهرت الأزمة الأخيرة وكذا نتائج الانتخابات أن الفائزين من رواد الإعمار المحافظ والذي حاز حتى الجولة الأولى على 156 مقعداً وهو ما يضمن له الأغلبية أنهم أجروا عمليات مُراجعة شاملة لبرامجهم وشعاراتهم جعلت من البعض أن يُسميهم ( المحافظون أو الإصلاحيون الجدد ) وهو ما رأيناه في حملتهم الانتخابية، فمثلاً السيد أحمد توكلي وهو من أقطاب اليمين والمدعوم من بعض مراجع التقليد في مدينة قم المقدسة قد رفع شعار أن العلاقة مع الولايات المتحدة لا هي واجبة كالصلاة ولا هي مُحرّمة كشرب الخمر، كما اتسمت باقي الشعارات بتركيزها على التنمية الاقتصادية وتحسين ظروف المعيشة والمُضي في سياسة إزالة التوتر في السياسة الخارجية ودعم حكومة الرئيس خاتمي، كما اتسم مُرشحوا هذا التيار بأنهم متخصصون وأكاديميون على مستوى رفيع وبعضهم رؤساء لجامعات في طهران وغيرها من المدن الأخرى .
التعليقات (0)